(أعتقد أنني أحق إنسان بأن أكتب هذه المقدمة لديوان (عتيق) وأنه لو لم يطلب مني وضعها لتقدمت أطلبه منه. ذلك أني قد أكون أعرف الناس بشخصيته، وبالعوامل التي تختلج في نفسه، والظروف التي تحيط به؛ وما كان هذا الشعر إلا صدى لهذه المجموعة، وصورة أخرى لها. ولقد قاسمته كثيراً من هذه العواطف التي سجّلها الديوان؛ وشاركته كذلك بعض ظروفها. والذي لم أكن موافقاً عليه من ناحية نسجه ومنحاه، كنت موافقاً على الظرف الذي انبعث عنه، والعاطفة التي أملته
(وإني لميال إلى اعتبار شخصية الشاعر جزءاً من ديوانه، - إن لم تكن هي كل ديوانه - فمعرفة الناقد بشخصية من ينقده أمر ضروري له في تحليله. وهو إذا لم يعرفها استعان على معرفتها بآثارها المكتوبة. فإذا قلت: إنني قد أكون أعرف الناس بشخصية صاحب هذا الشعر، كان ذلك معادلاً للقول بأني أحق إنسان يقدمه للناس.
(وأنا اليوم حينما أريد أن أعرف صدق الشاعر في التعبير عن شعوره - وهو عندي مناط الشاعرية - لا أجهد نفسي في التحليل والتمحيص. وتخريج المعاني ومراجعة الأحاسيس. كلا! فإن لدي صورتين حاضرتين: صورة صاحب الديوان وتصرفاته في الحياة وأفكاره وخواطره ودراسته. . . الخ. وصورته الأخرى المخطوطة في ديوانه. وما عليّ حين أشاء معرفة صدقه من كذبه، إلا أن أوازن بين الصورتين، فينماز المشوه والدخيل. وتتبين مواضع التزييف والمغالطة، أو تستقيم الصورتان وتنعدم الفروق. . .)
وأنا اليوم على هذا الرأي مع اختلاف في التطبيق والتفسير. فالصدق الفني - كما أفهمه اليوم - ليس من الضروري أن يحقق الصدق الواقعي. وحسبه أن يبلغ صدق الإحساس بالحياة وصحة الشعور بالطبيعة، وأن يعبِّر بعد هذا عن الخلجات المستسرة في الضمير، وإن لم يطابق تصرف الفنان الظاهر للعيان!
فهذه الصورة المستسرة هي الصورة الفنية مترجمة إلى لغة التعبير
على أن العجز لسبب ما عن تحقيق الشيء في عالم الواقع، كثيراً ما يقود الفنان لتحقيق ذلك الشيء في عالم الفنون. سواء أكان سبب العجز شخصياً أو كونياً. مثال ذلك شاعر أو قصاص مندفع بحكم بنيته أو وراثاته أو مزاجه إلى الارتكاس في حمأة الشهوات؛ ثم نجده يتغنى بالمثل الرفيعة أو يرسم شخصياته نماذج للترفع أو الصوفية. . .