لهذا الفنان عالمان: عالم الواقع الملموس، وعالم الرغبات المكنونة. وعالمه الفني هذا العالم الأخير. إنه ذو شخصية مزدوجة، نعلم ذلك من صورة شخصه، ومن صورة فنه. وليست إحداهما بكاذبة وهنا يكون للمعرفة الشخصية قيمتها في تحليل هذا الازدواج!
والموانع الكونية شبيهة بالموانع الشخصية. وصرعاها أكثر وأكثر. وما المدينة الفاضلة والطوبى العصرية وأمثالهما إلا من صنع هذه الموانع الكونية، والرغبات الكونية كذلك. فأنا حريص على أن أعتقد أن للكون رغبات مضمرة في التسامي المطلق تمثلها رغبات الأفراد الفانين!
ولست كذلك ممن يخشون غلبة الملابسات الشخصية على الأمانة الأدبية في النقد - إذا أنا عرفت أشخاص المنقودين - ولا ممن يخشون اتهام بعض القراء لي بأن لهذه الملابسات دخلاً في توجيه النقد، تحت تأثير الصداقات والخصومات!
وقد وقفت قبل أحد عشر عاماً كذلك ألقي محاضرة عن (وحي الأربعين) ديوان الأستاذ العقاد في (رابطة الأدب الجديد) فبدأتها بهذا التمهيد:
(أود قبل أن أتحدث عن (وحي الأربعين) أن أعلن إليكم صداقتي لصاحب (وحي الأربعين)! وأن هذه الصداقة شرط أساسي للدراسة والنقد - ولاسيما نقد الشعر ودراسته - فأنت لن تستطيع فهم الشاعر وتحليله حتى تتصل بقلبه وعقله، ولن يتاح لك الاتصال بهما حتى تكون صديقاً للشاعر، وحتى يكون بينكما تواد وتعارف قديم.
(وربما جهد غيري في مثل هذا الموقف أن ينكر صلاته بالرجل الذي يتحدث عنه، أو ربما جهد أن يعلن إليكم انه تخلص من صداقته، ليخلص إليكم برأيه البريء!
(أما أنا فلا أنكر! وأما أنا فلم أحاول التخلص من هذه الصداقة؛ لا. بل إني لأعلن إليكم أنني اتصلت بالأستاذ العقاد لأستوضحه بعض النقط، ولأتأكد من بعض ما كنت في شك منه.
(ولست أخشى من هذه الصداقة - على أشدها - أن تؤثر في رأيي. لأن لي صداقة أخرى أقوى من هذه الصداقة. وهي صداقتي لضميري. لا. بل صداقتي لشخصيتي، وحرصي عليها أن تفنى في أية شخصية أخرى. . .)
وأنا اليوم بعد أحد عشر عاماً كما كنت يومذاك بفارق واحد. وهو أنني لم أعد أعني اليوم