والشواطئ المائجة بالفتنة الحياة الروحية بسببه، فما بالهم تركوه يكتب في وصيته الأخيرة هذه الفقر التي تستدر الشؤون وترمض الجوانح:
(كل ما كتبته من نظم ونثر لم اجعل هدفي منه منفعتي الشخصية، وإنما قصدت به خدمة المجتمع الذي عشت فيه، والقوم الذين أنا منهم ونشأت بينهم، لذلك لم أوفق إلى شيء في حياتي يسمى بالرفاهية والسعادة في الحياة. . . لا أملك شيئاً سوى فراشي الذي أنام فيه، وثيابي التي ألبسها؛ وكل ما عدا ذلك من الأثاث الذي في مسكني ليس لي، بل هو مال أهله الذين يساكنونني. . .)
أين كان ذوو النفوس الشاعرة القادرة من أتباع الرصافي حين أفرط عليه إباؤه وكبرياؤه، فانطوى على نفسه يهدهد آماله بالصبر، ويخدر آلامه بالشراب، وروحه الوثاب ينبثق انبثاق النور، وأمله الطماح يتقلص تقلص الظل؟ لو شاء الرصافي أن يهاوي السلطان، ويمالق الحكومة، وينافق الشعب، لعاش أرغد العيش وبلغ أرقى المناصب؛ ولكنه آثر الحرية على الرق، واستحب الصراحة على الرياء، فذهب شهيد كرامته وعفته.
ستقول إن الزعيم أغا خان كذلك صريح حر، وإن صراحته لسافرة وحريته الطليقة لم تبغيا عليه في قومه، ولم تجرا إلي لكلام في صلاته وصومه. والجواب أن أتباع الزعيم الديني يصورونه في نفوسهم بصورة العقيدة التي يدينون بها، ويجعلون هيكله المادي رمزاً لهذه الصورة. ولهذا الرمز ظاهرة يراه الأوزاع، وباطن يستأثر بعلمه الأتباع؛ فهم يسددون ما يبصرون من زيغه، ويؤولون ما يسمعون من باطله، ويسبلون على عمله المريب ما يسبله لصوفيون من القداسة على الطبل والدف والناي والصنج، فتصبح هذه الآلات في أيديهم غيرها في أيدي القيان والمجان، وهي في نظر الناس لا تختلف في شيء عنها. قل إنها الجهالة أو السذاجة أو البلاهة، فلن يقدح ما تقول في الحقيقة، ولن يغير من الواقع.
أما أتباع الزعيم الأدبي فإنهم يتخذون صورته من فنه وروحه؛ فلصورته في كل ذهن شكل مختلف، وفي كل قلب أثر خاص. وطبيعة هذه الصورة أو تلك الصور مشتقة من طبيعة الفن: تتضح تارة وتبهم تارة، وتختفي حيناً وتلوح حيناً، على حسب استعداد النفوس لتقبل الجمال الفني حالا على حال، ووقتاً بعد وقت. لذلك كانت عقيدة هؤلاء الأتباع في زعيمهم كالعرض المنفك: تزول ثم تؤول، فإذا زالت نسوه كما ينسون السرور والحزن واللذة