والألم؛ وإذا آلت سمعوه كما يسمعون البلبل على فنن الدوحة، يطربون لشدوه ويعجبون بريشه، ثم لا يعنيهم بعد ذلك أيجد الحب والغش، أم يجد الفخ والقفص. وكذلك شأن أصحاب السلطان وأرباب الحكم مع رجال الأدب، يقتبسون من عقولهم النور إذا أظلمت الخطوب، ويستمدون من نفوسهم اللهب إذا خمدت العزائم، حتى إذا استوثق لهم الأمر، وتنازعوا الغار، وتقاسموا الفئ، أنكروا ما بذل الأدباء، وقالوا بلهجة الساخر البطر: وماذا صنع هؤلاء؟ لقد قالوا وإن الكلام طبع، وكتبوا وإن المداد رخيص! ذلك إلى أن أكثر عشاق الأدب مفاليك لا يملكون لأزبابه إلا الدعاء في الحياة، وإلا الرثاء في الموت! وإذا كان لدى بعضهم فضل من القوت لم يجد في نفسه من سلطان العقيدة ما يحمله على المواساة به؛ وذلك هو الفرق بين العقيدة الأدبية والعقيدة الدينية. فالعقيدة الدينية سلبية لا تتجاوز الإعجاب بالكلام والإنفاق من الكلام؛ فإذا وجدت من يبذل في سبيلها المال كان ذلك قطعاً للسان الهاجي، أو شراء لضمير المادح، أو تزييفاً لصورة الحق، وليس في مثل هذا البذل كسب للأدب ولا نفع للأديب. ولكن العقيدة الدينية إيجابية تقوم على إعلان الفكر بالشعيرة، وتمثيل المعنى بالرمز، وتحقيق النية بالعمل. والسلطان الروحي فيها قاهر، والأثر المادي عليها ظاهر. وحسبك منها الزكوات والصدقات والأضاحي والنذور؛ ففي بعض أولئك للزعيم الديني ذهب وميزان، ومدد وسلطان، وقصور ورآسة، ثم ضريح وقداسة!
حظك يا معروف هو حظ الأديب منذ كان في الناس أدباء وفي الأرض أدب! يموت أمثالك شرقاً بالبؤس، كما يموت أمثال أغا خان غرقاً في النعمة! فلو أن ربك حقق لك ما كان يرجوه شيخك الالوسي من رسوخ قدمك في الدين، وعلو منزلتك في التصوف، إذن لخلفته في الزعامة الدينية، وبلغت من (طريقتك) ما بلغ أغا خان في الدنيا، ونلت من (صوفيتك) ما نال معروف الكرخي في الآخرة.