المجلس، وإذا الفقر باد، ولكن مع الفقر ذوقاً ونظافة. . . فقعدنا، وحلفنا عليه ألا يصنع لنا شيئاً، فما نريد إكرامنا منه إلا بأسماعنا ضربه. . .
أخذ قيثارته (كمانه) وقسم (تقاسيم) هزت حبة قلبي، فأحسست بلذة ما عرفتها من قبل، ومع اللذة شئ من السحر، يجعلك تتطلع إلى المجهول، وتسمو إلى عالم الروح، ويوقظ فيك ذكرياتك وآمالك كلها دفعة. . .
فلما انتهى، عرض عليه حسني العود، فأبى واعتذر وقال: إنه لا يضرب عليه. . .
قال حسني: كيف وأنت سيد من جس عود، وأنت إمام الضاربين!
قال: إنني لا أستطيع!
فلما ألحفنا وألححنا قال: إن لذلك قصة ما قصصتها على أحد، فاسمعوها، ولو أني وجدت ما أكرمكم به لما قصصتها عليكم، ولكني لا أملك شيئاً، ولن أجمع عليكم حرمان السماع وكتمان السبب. . .!
وهذه هي القصة مترجمة إلى لغة القلم:
قال: كان ذلك منذ أمد بعيد نسيه الناس وأدخلوه في منطقة التاريخ المظلمة، فلا يرون منه إلا نقطاً مضيئة مثلما يرى راكب الطيارة من مدينة يمر بها ليلا، أما أنا فلا أزال أحس به بجوارحي كلها، ولا يزال حياً في نفسي، بل أنا لا أزال أحيا فيه، وما عشت بعده قط إلا بذكراه. لقد مر على قصتي زمن طويل عندكم لأنكم تقدرونه بعدد السنين، نصف قرن. . . أما أنا فأقدره بذكراه الحية في نفسي فأجده ساعة واحدة. . . لحظة. . . إني أنظر الآن إلى عينيها، وأشم عطرها، وأجلس في مجلسها. . . إن ما أراه حولي ظلال، وتلك المشاهد هي الحقيقة. أفعلمتم من قبل أن ذكرى قد تضح وتظهر حتى تطمس المرئيات، وتغطى على الحقائق، هذه هي ذكرياتي. . .
كان أبي من الباشوات الكبار المقربين من السلطان، فلما علم أني اشتغلت بالموسيقى، كره ذلك مني، وصرفني عنه، وعاقبني عليه، فلما أصررت عليه، أهملني واطرحني، وطردني من داره، فلبثت أتنقل في بيوت أقربائي وأصدقاء أبي، أمارس تعلم الموسيقى لأبناء الأسر الكبيرة، وكان (فلان) باشا من الآخذين بأسباب الحياة الجديدة، يحب أن يقبس عن أوربا طرائقها في معيشتها ويقلدها في السير عليها، فدعاني لأعلم ابنته، وكنت يومئذ في