الثلاثين، ولكنهم كانوا يقولون عني:(إنه أجمل شاب في حاضرة الخلافة). . . وأحسب أني كنت كذلك، ولكني - ولست أكذبكم - ما عرفت طريق الحرام، ولا الحلال استطعت سلوك طريقه!
قابلت الباشا، فأدخلني على ابنته لأعلمها، فنظرت إليها، فإذا هي ملتفة بـ (يشمق) من الحرير الأبيض، لا يبدو منه إلا وجهها، وأنه لأشد بياضاً وليناً من هذا الحرير، لا البياض الذي تعرفونه في النساء، بل بياض النور، لا، لم أستطع الإبانة عما في نفسي، أنه ليس كذلك، هو شئ ثمين عذب مقدس، يملأ نفسك عاطفة لا شهوة، وإكباراً لا ميلا، وتقديساً لا رغبة، وكانت عيناها مسبلتين حياء وخفراً، تظهر على خديها ظلال أهدابها الطويلة فلم أر لونها، وكانت في نحو السادسة عشرة من عمرها، مثل الفلة الأرجة إبان تفتحها. . .
وانصرف أبوها بعدما عرفني بها وعرفها بي، وبدأ الدرس على استحياء مني ومنها، ورفعت عينيها مرة، فمشى بي منهما مثل الكهرباء إن لمست سلكتها. . . عينين زرقاوين واسعتين، فيهما شئ لا يوصف أبداً، ولكنك تنسى إن رأيتهما أن وراءك دنيا. . . أنها تصغر دنياك حتى تنحصر فيهما، فلا تأمل إن رأيتهما في شئ بعدهما. . . العفو يا سادة! أنا لست أدبياً، ولا أحسن وصف الكلم، ففسروا أنتم كلامي، وترجموه إلى لسان الأدب، وأين الأديب الذي يملك من الكلام ما يحيط بأسرار العيون؟ أنه لعلم أوسع وأعمق من الفلسفة والكيمياء والفلك. . . أعندكم في وصفها إلا أن تقولوا: عينان سوداوان أو زرقاوان، واسعتان أو ضيقتان، حوراوان دعجاوان، وتخلطوا ذلك بشيء من تشبيهاتكم؟ أعرضوا عيون الفتيات تروا أنكم لم تصفوا شيئاً، هاتان عينان متشابهتان في سعتهما ولونهما وأهدابهما، ولكن في هذه الجمال الوادع الحالم، وفي تلك الجمال الشرس الأخاذ، وفي أخرى العمق والرهبة، وفي هذه الأمل، وعين فيها فتنة، وعين فيها خشوع، وعيون فيها شئ لا تعرف ما هو على التحقيق، ولكنه يبدل حياتك، ويقلب عليك دنياك باللمحة الخاطفة!
ولما تكلمت سمعت صوتها كأنما هو. . . مالي وللتشبيهات التي لا أحسنها؟ وأين ما يشبه به صوتها، وفيه الخفر وفيه الرقة وفيه فتنة وفيه رفاهية؟ لا تعجبوا فإن من الأصوات الصوت المهذب والصوت الوقح، والصوت المرفه، والصوت البائس؛ وصوتاً خليعاً وآخر