صيناً. إن الصوت لينطق من غير حروف. ورب ناطقة بلا إله إلا الله، وصوتها يدعو إلى الفحشاء! وقائلة كلمة الفجور وصوتها ينهي عنه! وإنك لتستطيع أن تتخيل المرأة من صوتها. ولم يكن في زماننا هذا الهاتف (التلفون) ولكني أعذر من أسمع عنهم أنهم يعشقون بالتلفون. فالأذن تعشق قبل العين أحياناً.
لم أجاوز الدرس ولم أقل فوقه كلمة واحدة. وكنت اشد منها حياءً وخجلا. ولم يكن أبناء زماننا أولى وقاحة وجرأة كهذه الجرأة التي نراها اليوم، وندر فيهم من كان مثل (الباشا) يسمح لابنته الناهد أن تتلقى العلم عن الرجال - وهو يعلم أن الشاب والشابة في الطريق أو المدرسة يتخاطبان بلغة العيون خطاب الرجل والمرأة، قبل أن يتحرك اللسانان بحديث المعلم والتلميذة. وانقضى الدرس بسلام، ولكني لما فارقتها رأيت كل شئ قد تبدل، فقد تعلقت بالحياة وكنت بها زاهداً، ورأيت ضوء الشمس أشد نوراً، وأحسست بالوجود من حولي وقد كنت انظر إليه غافلا، وكان لي أصحاب لم أكن أعدل بمجلسهم وصبحتهم شيئاً ففارقتهم تلك الليلة وهربت منهم، وذهبت إلى غرفتي فلم أطق فيها قراراً، ولا اشتهيت طعاماً ولا شراباً، ووجدتني أخرج على الرغم مني، فأؤم دارها، فيردني بابها فأهيم حولها أوغل السير في التلال الشجراء عند (بيوغلي) لا أستطيع النأي عن دارها. صارت هي كوني ودنياي، قد تبدلت قيم الأشياء في نظري، فعز ما كان منها أو يمت بصلة إليها، وهان كل شيء سواه، وانطويت على نفسي أفكر فيها وأتصور أدق حركة أو سكنة منها. وكلما ذكرتها يهز شئ قلبي فيخفق كجناح طائر علقت رجله بالفخ، ثم يندفع الشيء إلى عيني فيفيضان بالدمع. ولا أدري كيف أمضيت ليلتي، حتى إذا أزف موعد الدرس الثاني شعرت كأني عدت إلى جنتي التي خرجت منها، وعشت ساعة في لذة لو جمعت لذاذات الأرض كلها ما بلغت نقطة من بحرها. وعندما ودعتها نظرت أليّ نظرة شكت (وحرمة الحب) كبدي وزلزلتني زلزالا، وكدت من سروري بها أطير فوق رؤوس الناس خفة وفرحاً، فقد علمت أن لي عندها مثل الذي لها عندي، على أني ما كلمتها في غير موضوع الدرس كلمة ولا لمست طرف ثوبها، وما هي إلا نظرة واحدة ولكنها قالت فأبلغت، وحدثت فأفهمت!
وسكت الموسيقي وجال الدمع في عينيه، ثم قال وهو يكاد يشرق بدمعه وقد ضاع في رنة