أتدرون ما عمري اليوم؟ أنا فوق الثمانين، وقد مر على هذا الحب دهر، ولكني أراه كأنه كان أمس، وإني لا أزال شاباً ينطوي صدره على قلب صبي. ولقد حسبت أني أستطيع أن أتحدث عنه كما يتحدث الشيوخ عن ماضيات لياليهم - فوجدتني لا أستطيع، لا أستطيع فاعذروني إن هذه الذكرى قد خالطت شعاف قلبي، ومازجت لحمي وعظمي، وإني لأحس وأنا أحدثكم أني أمزق جسدي لأستل منه هذه الذكريات!
قلت: فاخبرنا ماذا كان بعد ذلك؟
قال: كان ما أخشى التحدث عنه، إني لا أحب الذكرى وأثيرها، إنكم لا تدرون ماذا تصنع بي؟ أنها تحرقني، تنتزع روحي. . .
كان يا سادة: أني تدلهت بحبها، وهمت بها، وجعلتها هي كل شئ لي، إن كنت معها لم أذكر غيرها، وإن فارقتها ذكرتها وفكرت فيها. فهي ماضي وحاضري ومستقبلي، وهي ذكرياتي كلها وآمالي، أراها طالعة علي من كل طريق أسير فيه، وأرى صورتها في صفحة البدر إن طلع علي البدر، وفي صحيفة (النوطة) إن جلست إلى (البيان)، ومن سطور الكتاب إن عمدت إلى القراءة في كتاب، فإذا جلست إليها والعود في حجري، وعيناها في عيني، وأذناها إلى عودي، تخيلت أني معانقها هي لا العود، وغبت عني، وسمت روحي إلى عالم أعرفه ولا أعرف ما اسمه، فرجعت منه بالسحر فجرت به يدي على العود، فمن هناك تلك (الأسطوانات) التي كنتم تعرفونها لي.
لا، لا تلحفوا علي (سألتكم بالله)، لن أذكر لكم هذه التفاصيل، إنني انتزعها من لحمي ودمي، فدعوها لي، أنها حظي من حياتي أتعلل بها وحدي. لا أحب أن تلوكها الأفواه ويتلهى بها قراء المجلات. لقد كانت الخاتمة أن أصدقاء أبي عطفوا علي، فخطبوها لي وكان العقد وصارت زوجتي، ولكن الله لم يشأ أن تتم سعادتي فمرضت ثم. . .
وغلب عليه البكاء، فلم يستطع أن يخرج الكلمة، فأداها بإشارة مبتلة بالدمع، محروقة بأنفاس الألم!
وسكتنا - فقال بعد هنية:
وقد ذهبت أودعها - فأخذت يدها بيدي، وكانت تلك أول مرة وآخرها، كأني أنازع الموت