ذلك انفرد بنفسه في ركن من الغرفة، حتى إذا مضت أربع دقائق اقبل علي يقول بصوت خافت: اسمع، ثم أنشدني هذا البيت:
وأعطشني وجدي إلى رشف ريقه ... لفرط صبابتي فمذ قال مُصْ طَفَى
ومن شعره رحمه الله في سيدة رثاها:
أيها المغرور بالدنيا اعتبر ... فبوعظ كم ينادى الزمن
بينما الإنسان في الدنيا إذا ... قائلٌ هذا فلان يدفن
ها هنا درة خدر فارقت ... قصرها الزاهي وهذا المسكن
أنشد الرضوان في تاريخها ... رحمة الله عليها جلشنُ
وجمل عجز البيت الأخير يعطيك تاريخ السنة التي توفيت فيها تلك السيدة، وإذا علما ان محاولة الحصول على التاريخ عند قرض الشعر من الأمور المعقدة التي لا يمكن فيها الجمع بين التاريخ وحلاوة الشعر أدركنا من هذا الشعر مقدرة هذا الشاعر الكبرى في تذليل هذه الصعوبة، فان إرسال الرحمة في هذه الصيغة التي ألفها الناس وذكر اسم المرثية والحصول مع ذلك على التاريخ المطلوب في شعر من بحر الرمل حلو الألفاظ والمعنى كاف للتدلي على مكانته. ولق بل من مقدرة محمد بك سعيد انه نظم مرة قصيدة من عشرين بيتا كان كل صدر وكل عجز منها تاريخاً، وقد سمعت ذلك من جدي رحمه الله، وكان وقتئذ وكيلا للمطبعة الأميرية، ولعل هذه القصيدة منشورة بالوقائع الرسمية التي كانت تنشر وقتئذ له وللمرحوم الليثي وغيرهما من الشعراء.
وقد روى لي محمد سعيد بك رحمه الله انه هو الذي وضع القطعة الغنائية المشهورة التي مطلعها:
بستان جمالك من حسنه ... أبهى وأجمل م البستان
على خلاف ما شاع بعد وفاته من أنها للمرحوم إسماعيل باشا صبري هؤلاء الناس الموفقون في الأدب والشعر قد لا يعلم الناس عن كثير منهم شيئاً، وهكذا يذهبون وتذهب معهم آثارهم. روي لي المرحوم السيد مصطفى لطفي المنفلوطي ان كتبة محكمة الإسكندرية الشرعية كان رئيسهم (الباشكاتب) في وقت ما رجلا نسيت اسمه خفيف الروح جيد الشعر، ولكنه كان مولعا بالشراب. وقد صادفه مرة أحد أصدقائه وهو يحتسي في