للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الكلمة بعد أن أمضى السنين يدرس ويبحث ويقيد ويسجل

وخطر هانوتو أنه رجل من رجال الفكر والدهاء، يجمع بين البحث والعلم والفلسفة، ينظر للاستعمار نظرة المحلل الطاغية الذي لا تتطرق الرحمة إلى قلبه

أتدري بمن أشبهه؟ بهذا الفريق أو الرعيل من دهاة العرب الذين نبغوا في العصر الأول من الهجرة، فقادوا الحركات الكبرى أو مهدوا لها بفكرهم وعقلهم: هذا الفريق الذي فيه معاوية وعمرو بن العاص، إننا لن نجد اليوم بين مجموعة الدول العربية من تسمو به كفايته إلى هذا الفريق من السلف الخالد.

أما هانوتو فكان داهية الفرنسيين، تلمس روحه الذين يضعون الخطط لبلادهم لسنوات بعيدة، ويرسمون لحكوماتهم برامج السير مع الأمم التي نكبت بالاستعمار، وهو مثل من كثير غيره، ولكن لكثرة ما قرأت عنه أراني في حل إذا وضعته في صف دوفرين السفير البريطاني في اسطانبول وملنر صاحب المشروع المشهور، وكلاهما من دهاة الاستعمار البريطاني الذين وضعوا الخطط الطويلة المدى لبلادهم، ولا نزال نحن بمصر نجاهد للخروج من نطاق تقرير دوفرين عن الشؤون الدستورية، ونكافح للخروج من دائرة ملنر في الناحية السياسية.

ولا تعجب من تقرير ذلك، فإنّ الاستعمار الأوربي في نكباته ومصائبه لا يعد شيئاً بجانب مقدرته على التطور والظهور بألوان مختلفة، وهو أكبر نشاط إنساني قام به البشر منذ الخليقة إلى اليوم، بل هو دعامة المدنية الحالية ومظهر قدرتها وتفوقها، بل لا نبالغ إذا قلنا إنّ مظاهر الترف ومستوى الحياة لدى جماعات من الأوربيين سوف تنهار أو تهبط بتفكك الروابط مع المستعمرات، ولذلك نجد الدول الأوربية أشد تمسكاً بهذه الروابط من أي عهد مضى. ونرى أنها تجتهد أن تسالم الحركات القائمة وتسايسها وتخضع لبعض مطالبها، حتى تحتفظ بما لها من سيطرة على هذه الشعوب وهذا الاتجاه هو أخطر ما يواجه الأمم الإسلامية الناشئة، لأننا لن نتغلب على الاستعمار إلا إذا فهمنا هذا النوع من العمل الإنساني، ولن نصل إلى الخروج عن نطاقه إلا إذا بعث الله لنا من أنفسنا رجالاً أقوياء أشداء يدافعون عنا ويلاته بعزيمتهم وقوتهم ولهم من الفكر والمضاء في الحق ما يمكنهم من نقلنا من حالتنا التي نحن فيها إلى حالة تقرب من المنطق والمعقول، أو تكون أقرب إليهما

<<  <  ج:
ص:  >  >>