في هذه الثناء كان زعماء الجراكسة وأعيانهم يرسلون الرسل والكتب متتابعة بدعوة الشيخ شامل إلى بلادهم. لمساعدتهم على رفع نير الاحتلال الروسي عن رقابهم، مظهرين الطاعة والإخلاص له ولدعوته الدينية الوطنية التي رفع رايتها في ربوع بلاد الداغستان.
وفي أوائل سنة ١٢٦٢هـ (١٨٤٦م) عزم الشيخ شامل على اجتياز الحدود والذهاب إلى بلاد الجركس، فجمع جمعاً عظيماً من الجمد الخيالة والرجالة واخذ معه سبعة مدافع ثقيلة، ومقداراً وافراً من المهمات والأسلحة الحربية، واجتاز نهر (ترن) ونزل في بلاد (قبرطاي) الواقعة في الشمال الغربي للداغستان، وأخذ ينشر تعاليمه ومبادئه عن طريق الوعظ والإرشاد، وأقبل عليه الأهلون مرحبين واظهروا استجابتهم لدعوته وموافقتهم لها، وبينما كان الشيخ شامل يقوم بهذه المهمة وينظم الحياة الدينية والمدنية في تلك البلاد. جاءه النذير بأنه وقع في كمين دبره له الروسيون. إذ قطعوا عليه خط الرجعة، وسدوا المسالك واقفلوا الجسور التي تصل ما بين بلاد الداغستان وأقاليم الجراكسة، فأسرع شامل بالعودة من حيث أتى، وبعد تصادم قوى بينه وبين الروسيين وتراشق بالمدافع استطاع الشيخ شامل أن ينقذ قواته ويجتاز بها نهر (ترن)، ورجع إلى بلاده منهوك القوى، بعد أن خسر في هذه الرحلة كثيراً من قواته ومهماته، وكاد يصاب بهزيمة منكرة لولا حزمه وقوة احتماله، ولولا مهارة الحاج يحيى قائد المدفعية في جيش شامل الذي استطاع أن يستخدم ما معه من المدافع الثقيلة أحسن استخدام في الوقت المناسب.
٥ - كان لهذه الحادثة أثر بعيد في المعارك التي تلتها، فقد قويت الروح المعنوية في الجيوش الروسية المحاصرة في القلاع المتناثرة هنا وهناك، فقاموا بعدة كرات على قوات شامل، ووقعت بين الفريقين مصادمات عنيفة، وأخذت الحرب في بلاد الداغستان صبغة رسمية، واسترعت إهتمام العالم أجمع، وحشدت القيصرية الروسية أعظم قوادها، وأرسلت إلى الميدان جموعاً كبيرة من خيرة جنودها ونظم كبار شعرائها القصائد الطوال في دعوة الناس إلى الجهاد في الداغستان ولكن شاملاً كان مع كل ذلك - كالعهد به - يعمل في صمت وهدوء وبنفس الإيمان والثقة بالله، وبنصره لعباده المخلصين.
ولما رأى مبلغ ما كان لصنع المدافع من نفع وتأثير حربي أخذ يشجع كل تفكير في صنع شيء جديد يمكن الاستعانة به في مقاومة العدو، وفي سنة ١٢٦٦هـ (١٨٤٩ - ١٨٥٠م)