يزيدون، فحاصرهم المعتصم، وطال حصاره لها، وأخبره المنجمون أنها لن تفتح إلا في الصيف حين ينضج التين والعنب، وكان قدومه إليها في زمهرير الشتاء، والأرض مسجاة في كفن أبيض من لثلج، وقد صوح ما عليها من شجر، وقل الماء والثمر، وأجهد الجيش، كما أجده العدو العنيد. بيد أن المعتصم أبى أن يستمع لصوت المنجمين المثبطين الذين أنذروه شراً مستطيراً إن هو استجاب لرغبة فؤاده وأقتحم أسوارها:
وخوفوا الناس من دهياء مظلمة ... إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
وشد على المدينة شدة بطل مغوار فدك أسوارها، وأشعل النار فيها، فذلت له وما ذلت قبل
لأحد:
من عهد اسكندرٍ أو قبل ذلك قد ... ثابت نواصي الليالي وهي لم تشب
بِكرٌ فما افترعتها كف حادثة ... ولا ترقت إليها همة النُّوَبِ
ودعا المعتصم بالرجل الذي بلغه حديث الجارية العربية المستغيثة فدله على الموضع الذي رآها فيه تذل وتهان، وبحث عنها حتى وجدها، وقال لها: هل أجابك المعتصم؟! وصار سيدها الرومي لها عبداً ذليلاً وأفعم قلبها عزة وأنفة. ورحم الله أبا تمام حين مدح المعتصم إثر هذا الفتح المبين بقوله مستهزئاً بآراء المنجمين:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب
أبقت بني الأصفر الممراض كاسمهم ... صفر الوجوه وجَلَّت أوجه العرب
واليوم، وعلى مرأى منا ومسمع تنادي بلدة عربية كريمة، وهي فلسطين الجريحة: وامعتصماه! وامعتصماه!. وقد أبى لها الجد العاثر إلا أن ترزأ بشر ذمة من صعاليك الأمم، وأفاقي الأرض الذي لفظتهم ديارهم، ومجهم مواطنوهم. يريدون أن يسلبوها عروبتها ويهدروا كرامتها، وقد مالأهم من لا أخلاق لهم من تلك الدول التي باعت ضمائرها للشيطان، وخنعت لصوت الذهب الرنان، وصفعت الإنسانية المهيضة على وجهها دون حياء، أو شعور بعظم الجريمة، وتنكرت لكل تعاليم الحضارة الحقة، فلا شرف، ولا ذمة، ولا مروءة، ولا عدالة. بل اتخذت شرعة الغاب، وقانون الكهوف لها إماماً، فتباً لهم وخزياً.