تراني. ولولا أن في ذمتي عهداً لخالتي ورفيقتي أن أقص عليك عاقبة أمرها لما أبحت لنفسي أن أبكيك بذكر حادثتها الأليمة وخاتمتها المحزنة!
لقد لقيها الذئب فعلاً يا سيدي! لقيها في أصيل يوم من أيام أغسطس الأخيرة، وكان الحر فيه يزهق النفوس ويضيق الأنفاس؛ فجلسنا أنا وهي في (سان سوسى) بميدان الجيزة نستروح نسيم النيل ونستنشي عبير الرياض. وكان الذئب يجلس إلى المنضدة التي تقابلنا في زى شاب وضئ الطلعة ظريف الهيئة، فخالسَنا النظر وخالسناه، وأشار أن يجالسنا فجالسناه. وعرفنا من فحوى كلامه أنه مخبر في إحدى جرائد الصباح، فزويت وجهي عنه لأنه لم يكن من الصنف الذي أتعاطاه. ولكنه كان حسن الحديث حاضر البديهة بارع النكتة لطيف الدعابة، فاستخفَّت خالتي ظله وصغت إليه. وقضينا في مناقلة الطرائف والأسمار أربع ساعات كانت أربع سنوات في رفع الكلفة بينها وبينه. ثم عدنا مع الفتى في الترام إلى المنيرة، وهنالك ودعناه وواعدناه. وباتت خالتي على هوى جديد لم تذق مثله منذ قدمت القاهرة ونازعت الندمان كؤوس الحب!
تجدد بعد ذلك الموعد، وتعدد اللقاء، وتأكد الود، حتى أصبحت تخرج وحدها إليه، فيقضيان أواخر النهار وأوائل الليل متنقلين في القاهرة بين مقاهيها وملاهيها، وبين أرباضها ورياضها، فيتساهمان اللهو، ويتقاسمان الصفو، والشاب يبذل لها من الوعود، مقدار ما تبذل له من النقود؛ فيزعم أن أحد الأحزاب المعارضة سينشئ له صحيفة، ويشترى للصحيفة مطبعة، ويبنى للمطبعة داراً؛ وأن رئيس الحكومة قد بلغه ذلك، فهو يساومه على قلمه الحوَّل القلَّب، وعقله الخرَّاج الوَّلاج، بمورد ذهبي يتفجر في بيته كل شهر من خزانة الداخلية وخزانة الحزب. وهو على يقين جازم من أحد الموردين إن لم يكن من كليهما؛ ولذلك أمر سماسرة البيوت أن يبحثوا له عن دارة في المعادى، ووكلاءَ السيارات أن يسجلوا اسمه على سيارة (بويك)!
ماذا تصنع خالتي وقد جمع الله لها كل أمانيها في هذا الصحفي الشاب؟ حب مكنون يملأ شعاب القلب، ومنطق معسول يلائم هوى النفس، ومستقبل مأمون يضمن رفاهية العيش! أخلدت إليه بالثقة، ورفَّت عليه بالأنس، وقبلت أن تزوره في غرفته الخاصة على سطح من سطوح النازل الحقيرة! وهنالك رأت أن ثروة الشاب لا تزيد على بذلة نظيفة فوق