التحقيق أدب لا أسلوب له! وقبل أن أعرض لرأي كروتشه في نقد المذهب الأخلاقي في الفن، كاشفا عما فيه من تناقض مع رأيه في أدب روسو وكل أدب آخر يحمل ذلك الطابع الاعترافي، قبل هذا كله أود أن أقول إن تلك الحملات التي شنها الفيلسوف الإيطالي على هذا اللون من الأدب تبعد كل البعد عن جوهر الواقع الملموس؛ لأننا لو وضعنا اعترافات رسو أو يوميات أندريه جيد في ميزان النقد، لاكتملت لها كل الصفات التي ينشدها الباحثون عن حقيقة الفن. . . الفن في كلمات هو أن يعيش الفنان في أعماق الحياة، وأن يستخدم كل حواسه في تذوق هذه الأعماق، وأن يملك القدرة على التعبير الصادق عما شهد وأحس حين يتناول ريشته ليسجل انعكاس الحياة على الشعور، وتلك أشياء يلمسها الناقد في اعترافات روسو ويوميات جيد.
الاعترافات واليوميات صورة واقعية من حياة الكاتبين الكبيرين، تعد في حقيقتها لوناً من الترجمة الذاتية التي تضع في يد القارئ والناقد مفتاح شخصيتهما الأدبية والإنسانية؛ فإطلاق الرأي فيها بضعف الأسلوب أمر لا ينطبق على الواقع؛ لان الصدق في التعبير صفة من صفاتها الرئيسية وسمة من سماتها الأصيلة. . . وليس هناك أسلوب مهما اتصف بالقوة أو بالجمال يستطيع أن يشق طريقه إلى القلوب والآذان، ما لم يستند إلى أقوى دعامة يمكن أن يستند إليها، ونعني بها الصدق في التعبير! ومع ذلك فأن صدق التعبير وجماله يتهيآن لروسو في أكثر فصول كتابه، وبخاصة في تلك المواضع التي تشير إلى علاقته الوجدانية بمدام دي فارنس.
ولعل في رمي الأدب الاعترافي بالتأنث كثيرا من الإغراق في التجني والإسراف والتحامل، وذلك لأن كتاب الاعترافات يقدمون إلى الناس صفحات من سجل الحياة سطرت بمداد الصراحة والأمانة والصدق. . . صفحات عاربة لا تكاد تتشح بغلالة واحدة من غلائل النفاق الاجتماعي وتملق عواطف الجماهير. ولعمري أن الكاتب الذي يعرض أمام الناس فترة من فترات حياته بما فعلت من خير وشر، من فضيلة ورذيلة، من لذة وألم، دون أن يخشى في ذلك نقدا أو ملامة أو زلزلة لمكانته الأدبية والاجتماعية، هذا الكاتب في رأيي ورأي الحق رجل قوي جدير باحترام الأقوياء وليس متأنثا كما يدعي كروتشه. . . إن هناك كتابا يتظاهرون في كتاباتهم بحب الخير والتمسك بأهداب الفضيلة وهم غارقون