(فاستقلت القطار - منطوية على نفسها في عربتها - أما حاشيتها فقد أقامت في ناحية أخرى من القطار.
وران عليها الحزن واحتواها الشجن، وهي جالسة على كثب من الباب تلقي بطرفها إلى الحقول والقرى وهي تمر بها في إثر بعضها، وقد استشعرت ألم الوحدة، وأحست لذع الوحشة في حياتها وهي عاطلة من أطفال يملؤونها بهجة وبشرا، وخالية من ذي رحم يحيلها مرحاً وأنساً. . . غير زوج ماتت في قلبه عواطف الحب، ونضبت منه عيون الحنان. . فلم يتورع أن يقذف بها في ركن قصي من العالم دون أن يصحبها كما ينبذون الخادم المريض في معزل عن الخلق!
وكن تابعها (إيفان) ينزع إليها في كل محطة لينظر إن كانت سيدته تروم أي شئ فيؤديه لها، وكان رجلاً كهلاً شديد الإخلاص، مغلق القلب على الطاعة، سريعاً إلى إنجاز كل أمر تلقي به إليه. . .
وفجأة عن لها أن تحسب ما قدم لها زوجها - في اللحظة الأخيرة - من النقود الذهبية الفرنسية، ففتحت حقيبتها الصغيرة، وأفرغت في حجرها ذلك الفيض الأصفر الرنان!
وعلى حين غرة أصابت وجهها نسمة قارصة من الهواء، فرفعت رأسها - وقد تولتها الدهشة - تستجلي الأمر، فإذا بالباب قد فتح، فلم تملك الكونتس المضطربة سوى أن تطرح غلالتها السمراء على ما في حجرها، ثم قبعت مترقبة!
فلم تمض لحظات، حتى دلف من الباب رجل عاري الرأس، جريح اليد، لاهث الأنفاس، وأغلقه من خلفه، واستقر في مقعد يلقي إلى جارته بنظرات حادة، ثم لم يلبث أن لف منديلاً حول رسغه المخضب بالدماء!
فأحست السيدة لفرط خوفها أنها تكاد تغيب عن وعيها، فلا مجال للريب في أن هذا الرجل قد لمحها وهي تحسب نقودها، فخف إلى سلبها. . . ثم. . . ثم يزهق روحها! إنه ما برح يحدجها بنظراته الثاقبة. . . مضطرب الأنفاس، مقطب السمات، يتربص بها الفرص حتى يثب عليها!
قال بغتة: سيدتي. . . لا تخافي ولا تجزعي!
فلم تنبس ببنت شفة، وقد تحجر لسانها، وطنت أذناها، وازداد قلبها خفقاً!