واستطرد فيما يقول: ما أنا بشرير. . . أيتها السيدة!
فأمسكت على صمتها، ولكن حركت ساقها فجأة - وهي لا تدري - فأخذ الذهب يتدفق إلى الأرض كما يتدفق الماء من الصنبور. . . فمكث هذا الرجل يحملق حيناً وقد أخذته الدهشة في ذلك السيل الذهبي، ثم لم يلبث أن انحنى يلتقطها ويجمعها!
فهمت مروعة، وألقت بكل ما معها على البساط، وهمت أن تجري تروم النجدة وتتوخى النجاة!
ولكن الرجل - قد أدرك ما هي مقدمة عليه - قفز إليها وأطبق على ذراعها، ثم دفعها في غلظة إلى حيث كانت تجلس وهو ممسك برسغها. . . وراح يقول في صوت مرتعد النبرات: اصغي إلي يا سيدتي. . . لست بشرير، ولا معتد أثيم. . . والبرهان على صدق ما أقول أني سأجمع هذا الذهب وأرده عليك لا ينقص دانق، ولكنك إذا لم تكوني لي عوناً وملاذاً حتى أعبر الحدود، فما أنا إلا رجل يساق إلى موته، ولن أبوح لك بغير ذلك!
ففي خلال ساعة سيمرق بنا القطار من الحدود الروسية، وحياتي معلقة حينئذ بين يديك رهن بمشيئتك. . . ولا يذهب بك الخيال، وتتوزعك الوساوس، إلى أني سفكت دماً، أو سلبت مالا، أو جئت أمراً يخالف الشرف ويدنس الضمير. . . أقسم لك أني لم أجانف إثما ولم أقارف ذنباً. . . ولكن لن أبوح لك بالمزيد!
ثم ركع ثانية، وراح يجمع الذهب، حيث انتثر تحت المقاعد وفي ثنايا البساط، حتى إذا امتلأت الحقيبة به مرة أخرى، ناولها لجارته في هدوء دون أن تنفرج شفتاه عن كلمة يرددها. . . ثم انثنى إلى الركن الآخر من العربة فجلس فيه لا يحرك ساكناً! ومكثت هي جانحة إلى الصمت وقد لفها السكون. . . وما برحت الغشية تراودها من أثر الخوف والرعب، وإن أفرخ روعها وبدأت نفسها تنزع عن الاضطراب ويطمئن قلبها رويداً رويداً!
أما هو، فقد جلس لا يريم، ولا يختلج له طرف، وهو يحدق أمامه، شاحب الوجه، تعلوه صفرة كأنها صفرة الموت. . . وأخذت هي ترسل إليه - بين الفينة والفينة - نظرات عاجلة تختلسها اختلاساً، وسرعان ما ترتد عنه. . . بدا الرجل وضيء الوجه منبسط السمات، عليه سيماء السيادة والنبل، وقد تجاوز عقده الثالث!