وكان القطار ينساب في سرعة مخيفة خلال الظلمات الطامية، ويرسل بين آونة وأخرى صفيره الحاد يمزق هدأة الليل بحدته! ولكن ما لبث أن خفف من سيره. . . ثم سكنت حركته بعد أن زفر بعض الصفيرات. . . فلما برز (إيفان) من الباب، ألقت (الكونتس ماريا) نظرة عجلى على رفيقها، ثم قالت لخادمها في صوت خافت ونبرة سريعة:(إيفان سوف تعود إلى الكونت، فما بي حاجة إليك!)
فحملق فيها الرجل بعينين واسعتين يتراقص فيهما الاضطراب وقد تجلت على وجهه الحيرة، وأرتج على لسانه القول:(ولكن يا سيدتي!) فأجابته:
- (كلا. . . لا تصحبني. . . فقد غيرت من فكري ورجعت عن رأيي. . . ومن الخير أن تبقى في روسيا. . . إليك بعض النقود لتعود بها، وناولني قبعتك وعباءتك!)
فخلع الخادم في جزع ودهش قبعته وعباءته دون أن ينبس بسؤال يستجلي به الأمر، فقد عودته التجارب وعلمته الأيام أن يطيع أهواء سادته ويجيب نزواتهم ولو كانت غريبة مباغتة، ثم أرتد على أعقابه مغرورق العنين بالدموع!
ولم يلبث القطار أن أندفع يطوي الأرض شطر الحدود. فقالت (الكونتس ماريا) لرفيقها: (إن هذه الأشياء لك - أيها السيد - أنت الآن (إيفان) خادمي. . . ولا أروم إزاء ذلك سوى شرط واحد، هو ألا تحدثني بكلمة، ولو كانت تحمل معنى الشكر!). فانحنى الرجل في رقة دون أن ينبس ببنت شفة!
ثم عاد القطار إلى الوقوف ثانية، وصعد إليه نفر من الضباط في أرديتهم الرسمية، فمدت لهم الكونتس يداً بأوراقها قائلة - وهي تومئ إلى الرجل في مؤخر العربة -:
(ها هو ذا خادمي إيفان وأوراقه هنا!)
انطلق القطار في سيره من جديد، وقد جلس كلاهما غير بعيد من الآخر، والليل يضمهما، والصمت يحتويهما، حتى إذا انسلخ نور الصبح من دياجير الليل، وقف بهما القطار في محطة ألمانية، فنهض الرجل المجهول، وقام إلى الباقائلا في صوت هادئ رقيق:
- معذرة يا سيدتي إن أخلفت ما كان من وعدي، يبدو أني قد حرمتك من خادمك، فلا أقل من أن أحل مكانه، أما تعوزك حاجة؟!