مفننٌ حرك منظره من نفسك بين روعة الفن وجمال التصوير ما يقف بك خاشع الطرف بين يدي الفن وجلاله، وهكذا تراك وأنت تقرؤه في قول الصافي:
أكافح البرد في سراج ... يكاد من ضعفه يموت
في غرفة كلها ثقوب ... أو شئت قل كلها بيوت
يسكن فيها بلا كراء ... فأرُ وبقَُ وعنكبوت
فمناط الشعر في ذلك إنما هو جمال التصوير، ولعل الخيال أوفى نصيبا من الحقيقة فيه. ففي قوله (يكاد يموت) و (كلها بيوت) و (بلا كراء) من جمال الفن ما لم تكد تعثر عليه فيما لو جردت الأبيات منها، ولم يكن ليستطيع الصافي أن يصور لك الجمال في البؤس لو لم يكن هو بائساً، ولعل أشعر الناس بالبؤس هو ألصقهم به وأقربهم نفسا منه. إذ البؤس إحدى ظواهر الحياة في الحي، والصورة الفنية إما أن تكون حقيقة محضة أو ملفقة من الحقيقة والخيال، فالأولى تتحقق في نقلها لك كما في الواقع حتى كأنك تراها حقيقة مجردة عن الخيال كما مر بك في تصوير الأحدب في قول أبن الرومي، والثانية نقلها لك وليدة خيال يوهمك وجودها في الخارج كقوله:
خلا يدك البيضاء ذمَُ وللندى ... على حافتيها مسرح ومقيل
حمت غصن المعروف أن يخطئ الجني ... وزهر الندى أن يعتريه ذبول
لم يشأ أن ينقل صورة الغصن أو صورة المعروف ولا صورة الزهر أو صورة الكرم، وإنما شاء أن ينقل لك صورة لفقها الخيال من كلتا الصورتين عن طريق الاستعارة ومن وراءها التشبيه المطوي كما يحققه علماء البيان.