الشعرية الجديرة بذلك الشاعر. والأمر بعد أيسر من هذا العناء، فالدال في يحدى إنما هي ذال معجمة ذهب إعجامها، فتكون العبارة:(عشية يحذى بالرماح أبو بكر) بمعنى يطعن ويمزق جسده، كما هو الأصل في معنى حذا وأخواتها، كحذ وحذق وخذف وحذم.
هذا هو البيت الأول، ولا بأس على الأستاذ أن يتجاوزه، كما تجاوز - فيما يبدو - كثيراً غيره، إذ ليس بصدد التحقيق والتدقيق والتنقيب والتعقيب، وإذا كان أمر الدرس الأدبي قد صار - فيما يبدو أيضاً - أمر دراسة خاطفة عابرة، يعنيها أول ما يعنيها أن تخطف الأبصار - فيما يخيل إليها - ببعض الظواهر البراقة الباهرة، وأن تصل إلى أهدافها المرموقة. . . بما تستطيع أن تصطنعه من حركات بارعة ماهرة.
ولكنا لا نغمط الأستاذ حقه، فبقدر ما تجاوز البيت الأول مسرعاً عجلاً، وقف عند البيت الثاني مستأنياً محققاً متأملاً، كما رأينا في التعليق الذي نقلناه عنه منذ قليل. ففسر كلمة (يد هدى) كما لقنته المعاجم، وجزاه الله عن الباحثين خيراً! ولكن هذه المعاجم التي أسعفته في موقفه من هذا البيت، في هذه الكلمة، فقدمت إليه تفسيرها، فأسرع إليه يدونه كما هو، أميناً عليه، فرحاً به، جعلت تراوغه وتعابثة وتمكر به في الكلمة التالية، فخيلت إليه أنها تسطيع أن تمده فيها بما يثبت أستاذيته، ويظهر ألمعيته، ويحقق دكتوريته، فتشبث بها، وتعلق بذراعها:
(ولكن يد هدى بالرجال فهبنه)، فهبنه؟ ما عسى أن يكون معنى هذه الكلمة؟ أجيبي أيتها المعاجم العزيزة كما أجبتني من قبل. ولكن المعاجم لم تجبه في الأولى إلا لتزلقه وتعيث به وتسخر منه في الثانية. فها هي ذي تأخذ بيده المتشبثة بها. وتجره معها، وتجول به بين هذا الموضع وذاك من مواضع الهاء والباء، ثم تقف به أخيرا ً - وقد بلغ منه الكلال والعناء حتى كاد يسَّاقط من الوهن والأعياء - عند كلمة (أهاب)، وتقول له، وهي تبسم بسمة ساخرة ماكرة: انظر ها هنا ضالتك! أجل ها هنا أخيراً ضالته، وما يكاد يصدق أنه واجدها، ولكنه يسارع فيصطنع هيئة العلماء المتزمتين، ويتخذ سمت الأساتذة المحققين، ثم يتناول قلمه، فيكتب:(لعلها من أهاب بالإبل والخيل إذا زجرها قائلاً هاب هاب)، ثم يتنفس الصعداء بعد هذه الرحلة المضنية الموفقة! مستريحاً إلى هذه الجملة البارعة الرائعة!
ويا لله لهذه الشرارة التي سطعت له من بين صفحات المعاجم، فأضاءت له أرجاء ذلك