وتعال بعد ذلك أحدثك عن عنصري (الجو والموسيقى) في هذا الأداء؛ الجو الذي قلت لك عنه إنه الأفق الشعوري الذي ينقلنا إلى مكان الفن وزمانه، ويحقق لنا المشاركة الوجدانية بيننا وبين الشاعر، ويحدث لنا نفس الهزات الداخلية التي يتلقاها وهو في حالة فناء شعوري كامل مع الوجود الخارجي. . . إن الشاعر هنا يصور ملاعب الطفولة البريئة في رحاب الوطن الأول، وهو بعد ذلك يستعيد ذكرى عهود، عهود مرت بنا ونسيناها، فإذا هي تعود إلينا من وراء الوعي حية نابضة، وما هذا النبض وتلك الحياة إلا من أثر القدرة على البعث والإثارة!
إنك لتحس من هذا (الجو) الذي ترسمه ريشة الشاعر على لوحة الشعور أنك قد نقلت نقلا على جناح الخيال إلى هناك، إلى ذلك الأفق البعيد الموغل في طوايا الزمن. . . وإذا أنت في كل بيت من أبيات أبي ماضي تكاد تلمح طفلا يتوثب مرحاً ونشاطاً وحيوية، طفلا يخيل إليك أن كل نقلة من نقلات الإيقاع الموسيقي هي وقع الخطى من قدميه الصغيرتين!
ولعلك تلحظ أن الإيقاع هنا هو إيقاع الموسيقى الحالمة، ذلك لأن الجو الشعري هو جو الأحلام الخالصة، جو الذكريات التي يهمس بها الماضي الحبيب في مسارب النفس الخفية، فيرتد الصدى العميق من تلك الأغوار إلى ثنايا الكلمات، ممثلا في تلك الوقدات الملتهبة من جيشان العاطفة. . .
وهذا هو دور الموسيقى التصويرية التي قلت لك عنها إنها تصاحب المشهد التعبيري في الأداء النفسي، وتعمل على تلوين الانفعالات المختلفة تلويناً خاصاً يتناسب وطبيعة الألفاظ في مجال القيم الفنية والنفسية.