رحمه الله على حب الدعابة منذ طفولته، يسري عن النفس، ولا يضير أحداً ممن يمسه بتلك الدعابة. . . كنا يوماً نركب الترام لأول مرة إلى ظاهر المدينة، فلما وقف في إحدى محطاته التفت المازني إلى رجل واقف يغري منظره بالمعاكسة - والحق يقال - فحياه وألح في تحيته والترام يتحرك ويبتعد، والرجل واقف حائر حتى استخار الله على شكه ورد التحية، فما فعلها حتى أومأ إليه صديقنا بلسانه إيماءة ساخرة ولكنها غير جارحة، وجعل يقول: والله إنه لرجل ظريف، والله إنه (لجنتلمان)
أما جانب التجربة في نزعة المازني إلى الاستخفاف، فمنه النفساني الذي خامره من إرساله الشعر خاصة بغير صدى يتلقاه ممن يعنيهم بشعره، ومنه آلام الصدمات والشدائد التي كان يخفف ثقلها بما استكن في طبيعته من نوازع الاستخفاف.
أما الجانب الذي أوحت به المطالعة فأحسبه راجعاً على الأرجح إلى كتابين من القصص الروسي أحدهما قصة (سانين) لمؤلفها (أرتزيباشف) والآخر قصة الآباء والأبناء لثورجنيف، وكلتاهما تخلق الاستخفاف على الأقل حين قراءتها لمن لا عهد له بالاستخفاف. ونحب أن نصف هنا هذا الاستخفاف بأصدق صفاته، لأن المستخف قد يبدي قلة الاكتراث لسببين نقيضين: قد يبديها لقلة إحساسه، وقد يبديها لفرط إحساسه. وقد كان فرط الإحساس هو الينبوع الذي يصدر عنه استخفاف المازني.
ثم قال الأستاذ العقاد: ولقد كانت ملكات المازني أول ما تناوله باستخفافه، وكان الشعر أول ما تناوله من تلك الملكات، ولكن استخفافه بشعره من قبيل استخفافه بكل شيء: فرط إحساس لا قلة إحساس. وإنه لمن الحظ السيئ للشرق العربي أنه لم يأخذ من المازني كل ما كان قادراً على أن يعطيه من صفوة ملكاته، وليست كلها مقصورة على الشعر ونقده، فقد امتاز بملكة أخرى هي ملكة الترجمة المطبوعة، أو ما يصح أن نسميه بعبقرية الترجمة، فقد كان يترجم الكلام في سليقته شعوراً قبل أن يترجمه لفظاً ومعنى. وختم الأستاذ العقاد كلمته الحافلة بتوجيه الخطاب إلى الفقيد الراحل قائلاً: ما أنت ممن يحسن إليه الناس بذكره، وإنما يحسنون إلى أنفسهم كلما ذكروك.
بين الفتى وأستاذه الشيخ:
قال الفتى لأستاذه الشيخ: سمعت أخيراً من الإذاعة المصرية حديثاً لأستاذ من أساتذة