للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وسط هذا كله، وسط هذا النظام وهذا الهدوء، كان رجل عجوز، ذو قبعة من الخوص، يجوس المسالك طول النهار، يروي في الساعات الرطيبة، ويقتطع ويشذب الأغصان ويسوي الأفاريز.

هذا الشيخ لم يكن يعرف أحدا في البلد. لم يكن يطرقه زائر قط. اللهم إلا عربة الخباز التي كانت تقف في كل باب في شارع القرية الوحيد. وأحيانا كان يرى اللافتة عابر من الناس يلتمس قطعة من أراضي السفح هذه الغنية الخصبة التي تمنح بساتين جميلة فيتوقف ليقرع الباب، ويقرع في أول الأمر فإذا البيت أصم. ثم يقرع ثانيا، فيدنو من أقصى الحديقة وقع (قبقاب) في بطأ وتؤدة، ويوارب الشيخ بابه وهو متهجم الوجه:

- ماذا تريد؟

- هل المنزل للبيع؟

فيجيب الرجل الطيب القلب بجهد:

- نعم. . . ولكني أقول لك مقدما إنهم يطلبون فيه ثمنا غاليا جدا. . .

وكانت يده المتأهبة لإغلاق الباب تسده عليك - وكانت عيناه تطردانك، فما اشد ما كانتا تظهران من سخط، وكان يظل هناك قائما كالفارس على حراسة أحواضه وخضره وفنائه الصغير المفروش بالرمل. وإذ ذاك كان الطارقون يتابعون سبيلهم وهم يسائلون أنفسهم من تراه يكون هذا المخبول الذي عرضوا له؟ وأي مجنون هذا الذي يحمله على الإعلان عن بيع منزله بهذه الرغبة الملحة في الاحتفاظ به.

وخيرا وضح لي هذا السر. ذات يوم وأنا مار أمام البيت الصغير، سمعت أصواتا ثائرة، وصخب مناقشة حامية.

يجب البيع يا أبانا، يجب البيع. لقد وعدت بذلك وسمعت صوت الأب متهدجا يقول: إني يا أولادي لا اطلب افضل من البيع. . . أما ترون؟ لقد وضعت اللافتة. وهكذا علمت أن هؤلاء أبناؤه وكناته، تجار من صغار أصحاب الحوانيت في باريس، يحملونه على أن يتخلص من هذا الركن الحبيب. لأي سبب كان؟ هذا ما كنت أجهله. أما المؤكد فهو أنهم بدءوا يلمسون أن الأمر قد طال وأن الشيخ يمطلهم. ومنذ ذلك الوقت اقبلوا بانتظام؛ يوم الأحد من كل أسبوع، يستنهضون الرجل المسكين ويحثونه على أن ينجز وعده ومن

<<  <  ج:
ص:  >  >>