الطريق في هذا الصمت العريض الذي يسود القرية يوم الأحد، حين تستريح الأرض ذاتها من كونها قد حرثت وبذرت طوال الأسبوع، كنت أسمع ذلك جليا. كان التجار الصغار يتحدثون، ويتجادلون فيما بينهم وهم يلعبون لعبة (البرميل)، وكانت كلمة (النقود) ترن رنينا جافا كهذه الأقراص المعدنية التي يقذفونها. وفي المساء كان الجميع يرحلون، وكان الرجل الطيب القلب، بعد أن يرافقهم في الطريق بضع خطوات، يعود مسرعا فيغلق من جديد بابه الغليظ سعيدا مبتهجا، وقد ظفر بمهلة لمدة أسبوع. ويستعيد البيت سكونه، ويظل ساكنا ثمانية ايام، فما تسمع في الحديقة الصغيرة التي تلفحها الشمس إلا صوت الرمل يسحقه وطء قدم ثقيلة أو تجرفه المجرفة.
على أنهم من أسبوع لأسبوع، راحوا يضيقون الخناق على الشيخ. ولم يدخر صغار التجار وسيلة من الوسائل. أحضروا الأحفاد لإغرائه:(أترى يا جدنا حين يبيع البيت ستأتي لتسكن معنا، وكم سنكون سعيدين معا!. . .) ثم كانت أحاديث منفردة يلقيها كل امرئ لنفسه في ركن من أركان البيت على حدة، وسير خلال ممرات الحديقة لا يقف عند حد، ومسائل حسابية يجريها صوت مرتفع. ومرة سمعت إحدى البنات تصيح: - هذا ألخص لا يساوي مائة دانق. . . أنه خليق بأن يهدم.
وكان الشيخ يصغي دون أن يقول شيئا. كانوا هم يتكلمون عنه كأنه قد مات، وعن داره كأنها قد هدمت بالفعل. فكان يتجنبهم ويمشي، احدب الظهر، والدموع ملئ عينيه، ملتمسا كعادته غصنا يشذ به أو ثمرة يعني بها أثناء مروره. وإنك لتحس أن حياته قد تغلغلت جذورها في هذا الركن الصغير من الأرض تغلغلا لن يبعث فيه القدرة على اجتثاث نفسه منه. والحق أنه كان مهما افتنوا في إغرائه، يرجئ دائما لحظة الرحيل. في الصيف، حين تنضج هذه الثمار التي ويحي إليك مذاقها الحامض بعضا الشيء بأن السنة ما زالت في نضرتها وريعانها، ثمار الكرز، والبرقوق، والمشمش، كان يقول:
لننتظر المحصول. . . سأبيع بعده مباشرة.
وبعد المحصول، بعد انقضاء موسم الكرز، يأتي موسم الخوخ ثم العنب، وبعد العنب تأتى ثمار (النيفل) السمراء الجميلة التي يكاد المرء يجنيها تحت الجليد. وحينئذ يأتي الشتاء، فيسود الريف وتخلو الحديقة. الآن لا مارة، ولا شراة، بل ولا صغار التجار يوم الاحد،