للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الأدبية التي ترمي إلى صرف النشاط الثقافي عن جوهر الأمر.

وإن هذا الذي يقوله الأستاذ الهاكع في مقدمته الرائعة ليذكرني بمحاضرته القيمة التي ألقاها عن شبنجلر قبل توزيع هذا الكتاب في قاعة المحاضرات بدار المركز الثقافي بالمنصورة وفيها بسط لنا معاني الفلسفة وقربها إلى أذهان المستمعين، وعرضها عرضاً مغريا جذاباً خالياً من التعقيدات، والمعميات،

وقال عن شبنجلر أنه ليس من هؤلاء المتفلسفين الذين جعلوا من الفلسفة عبارات غامضة تستأثر بتذوقها طائفة محدودة، وأنه ليس بالناقل وإلا باللاهي، وإنما هو مفكر أصيل جرئ حسن وأفكاره عصارة دمه قبل أن تكون وليدة فكره، ولذلك يعرضها عارية من كل ملطف، ويقذف بها في وجه العالم أجمع في صراحة مدهشة، وشجاعة عجيبة قلبت كثيراً من أوضاع الفكر المقرر. ومن أسس الفنون وسائر الاتجاهات العلمية والأدبية! فكم من هيكل فكري أو حكم راسخ حمته القداسة مئات أو آلاف من السنين قد انهار تحت معوله القاسي؛ وكفاك أنه حكم القضاء على المنطق المألوف - منطق العلمية - فنزع سلطانه وأخذ بمنطقه الخاص الذي أسماه منطق الحياة.

ولقد أحسن الأستاذ الهاكع بك كل الإحسان حين كشف لنا في مقدمته عن شخصية شبنجلر؛ وحدثنا عنه حديثاً مفصلا أظهرنا على مذهبه وفلسفته، واتجاهاته الفكرية؛ فقرأنا كتابه ونحن نعلم تمام العلم أن الرجل قد جاوز حد الإعجاز فيا كتبه وفيما وجهه إلى الحضارة الأوربية من لطمات، وأنه كشف لنا عن خفايا وأسرار هذه الحضارة وعوامل نهضتها وانحلالها ودورانها المحتومة، وأن تقديراته للمستقبل يلفت حد الروعة الفذه إذ أنه قدر الحرب الأخيرة قبل وقوعها وقدر نتائجها والساحة السياسية والحربية تقديراً عبقرياً. وإننا لنقرأ اليوم ما كتبه منذ سبعة عشر عاما كأننا نقرأ تصويراً للحاضر يستحيل على غير المعاصر أداؤه.

وأنا أعتقد أن الأستاذ الهاكع بك حين فكر في ترجمة شبنجلر عن الألمانية نفسها، فإنما ترجمه وهو متأثر به ومعجب بأفكاره ومذهبه إلى حد بعيد بالرغم من أنه احتاط لنفسه وقال: أنه لا يسلم بكل ما رآه، ولكن صراحته الألمانية الخشنة تفتح لنا فرجة إلى خفايا كلها فائدة وخير لنا.

<<  <  ج:
ص:  >  >>