ولذلك فقد أطال الكتابة عنه، ولم يترك ناحية تتصل بهذا الفيلسوف عن قرب أو عن بعد إلا عرضها على القارئ عرضاً نموذجياً ناجحاً يحبب إليه اعتناق مذهب شبنجلر والتأثر به قبل قراءته.
وهذا نوع عجيب من عبقرية القدرة على الدعاية للمذاهب الفلسفية التي يميل إليها الكاتب القدير.
ألا ترى أنه يصور لك آراء شبنجلر تصويراً بديعاً يملك عواطفك ويهز جوانحك ويتغلغل في صميم نفسك حين يقول لك:(إنه يرى أن كل ألوان القياس والقضايا تسند في النهاية إلى بدهيات هي في ذاتها قضايا؛ ولكنها قضايا مسلم بها لا تتسع لأن تبنى على قضايا أخرى. شوهنا يتساءل: أليس كل التفكير إذن مرتكزاً على الاعتقاد؟ وأليس كل ما تعارفنا عليه من نظريات وأسس علمية مهما تبلغ من الدقة مبنياً على مسلمات هي في ذاتها عقائد؟ فإن كان الفكر في ذاته مبنياً على المسلمات والعقائد فما الفارق إذن بين التفكير والاعتقاد؟
أليس هو في الدرجة فحسب؟ أي في أن الفكر المألوف أبعد عن العقيدة الأساسية التي تطالعك مباشرة، وبدون أدنى وسيط أو تسلسل؟ وبهذا حول العلوم في أسسها إلى عقائد وقال إن ما يأخذه العلماء على الدين إنما هو مبهم مردود إلى راميه.
وهكذا هدم العلية المألوفة وحصرها في حيز ضيق واهتدى إلى أن وراء الحوادث ما يعلو على الأسباب السطحية! وراءها منطق الحياة والزمن، وراءها القضاء أو المصير بالمعنى الألماني.
القضاء الذي يملي على الفرد وعلى النوع وعلى الحياة ألوان النمو والتطور مما لا يمت بأي وشيجة إلى السببية، فهو يعتنق جبرية من لون جديدة تتصل بالجبرية الإسلامية وتختلف عنها، تتصل بها من حيث الحتمية، وخلوها من التدبير، وتختلف عنها من حيث ردها إلى مقدر بصورته الفلسفية الألمانية ذلك القدر الذي تلعب فيه الإرادة البشرية الفردية دورها. ومن العسير على غير من تذوق الثقافة الألمانية أن يتصور كيف نتسق صور القدر مع فكرة إرادية ذاتية خارجة عن الروح الكونية)
وما كان لغير علي بك الهاكع الكاتب المسلم الفيلسوف أن يعلق على رأي شبنجلر مثل هذا التعليق، وأن يوازن بين الجبرية الإسلامية والجبرية التي يعتنقها الفيلسوف الألماني،