للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لقد كان السخط هو المنبع الأصيل الذي انبثقت منه سخرية (شو)، لتنال برشاشها اللاذع كل ما يدخل في دائرة عقلية من مظاهر الإنكار. . وما هي السخرية على التحقيق إذ لم تردها إلى أصولها النفسية من السخط الثائر على أمر من الأمور؟ إنك لا تسخر من وضع في الحياة إلا إذا كنت ساخطا عليه، لأن السخرية في جوهرها ما هي إلا اتجاه عقلي إلى الحط من قيمة هذا الوضع، والتعرض له بفنون من الهدم والتجريح! والسخط لون من ألوان الثورة بلا جدال، ولكنه عند (شو) ثورة عقله مهذبة، هدفها التحطيم بالقلم واللسان، ومادتها السخرية التي تؤثر الهدم بالقول الجارح وتفعل بالظهور ما لا تفعل السياط. . هو ساخر في حياته وساخر في فنه، وبهذه السخرية القادرة نظر إلى الحياة والفن من زواياه الخاصة، وسلط عليهما أضواءه الخاصة، وأختلف مع كل المصورين في لقطاته البصرية والنفسية!

ولم تكن سخرية (شو) هي سخرية العاجزين حين يشكو النقص فيتندر على القادرين، ولكنها سخرية المشرف على الدنيا من فوق قمة عالية، تريه الأشياء صغيرة مسرفة في الصغر ضئيلة مغرضة في الضآلة. ومن هنا أمتزجت السخرية في دمه بالكبرياء، سخرية العقل بكبرياء النفس، ثم أنصهر هذا المزيج العجيب في بوتقة الحياة فنشأت عنه هذه النزعة الإنسانية التي تتسم بالعطف على الشعوب الفقيرة والمحتلة على حد سواء. إنها نبضات القلب الكبير، القلب الذي تقلب يوما على أشواك الفقر فقاد خطوات صاحبه إلى الطريق (الاشتراكية)، وناء يوما بثقل القيد فوجه قلم صاحبه إلى مهاجمة الاستعمار!

ولا بد من التفرقة بين التهكم والسخرية وبين المرح والدعابة في حياة الموهوبين، أعني لا بد من هذه التفرقة بين كاتب مثل برناردشو وبين كاتب آخر مثل مارك توين. . إن (التريقة) عند (شو) أساسها الطبيعة الساخرة المتركزة على أطراف كلمة ساخرة، هدفها رفع القناع عن وجه مشوه من وجوه الحياة. ولكن أساسها عند مارك توين هو الطبيعة المرحة التي تنشد المزاج لغرض بريء، وهدفها أن النكتة قد (حبكت) فلا مفر من تسجيلها ليضحك هو ويشرك معه الناس ولكي نوضح الفارق بين الطبيعتين نقتصر هنا على نادرتين من حياة هذا وذاك على سبيل الموازنة بين الدعابة والسخرية: أما النادرة الأولى فتصور لنا مارك توين سائرا في أحد شوارع نيويورك مع نفر من أصحابه، حين تقدم إليه

<<  <  ج:
ص:  >  >>