وكل ما فعل الفقر في نفس الرصافي هو الكبت: فقد كبت الفقر (وإن شئت فقل الشعور بالنقص) غريزة التغلب والسيطرة فأنكبت هذه الغريزة القوية العنيفة فأقضت عليه مضجعه وزلزلت أركان حياته، حتى هدته المعرفة إلى ما تعانيه الأمة العربية من آلام القهر والخضوع، فرأى في قهرها صورة لسلطته المقهورة فدفعه هذا التشابه إلى التفكير في الغير بدل التفكير في الذات تخفيفاً لألم الكبت. فراح الرصافي بعد هذا الانتقال النفسي بصف ما تلاقي الأمة العربية من ألم الخضوع لظلم المستبدين من الحكام، ومرارة الانقياد لسلطان الجهل وحكم العادات الضارة والتقاليد السقيمة. وهو بهذا إنما يصور رغبته في الحرية لتطبقها الأمة في نضالها. ومن حسن حظ الأمم المستضعفة أن يكون بين أفرادها أمثال الرصافي ممن كبتت فيهم رغبة الحرية ووهبهم الله قوة البيان سلاحاً يقتلون به عدو الأمة وعدوهم. فهؤلاء المكبوتون في الأمم الخاضعة المقهورة كالحرارة في الأجسام والنور في الظلام والحد القاطع في شفرة الحسام، أحس الرصافي بالظلم الواقع على الأمة العربية من قبل السلطان عبد الحميد وحكومته المؤلفة من أوباش الناس؛ ورأى الخضوع لهذا الظلم بادياً على الأمة العربية بدواً شائناً معيباً وهي الأمة العريقة في الحرية والاستقلال والعزة والكرامة فتأذى بهذا الظلم وبرم بهذا الخضوع فنظم قصيدة سماها (تنبيه النيام) وبدأها بالتساؤل عن الوقت الذي تنبه فيه الأمة العربية فتدفع عن نفسها الأذى وتسترجع حقها المسلوب ويبدي تعجبه لصبرها على الضيم وبقائها على الظلم.
وأعجب من ذا أنهم يرهبونها ... وأموالها منهم ومنهم جنودها
ولكن ما قيمة التألم في هذا المعرض. فخير منه توجيه الأمة إلى الهدف؛ وأي هدف أحلى من الحرية في نظر الأمم المستعبدة.
ألا إنما حرية العيش غادة ... منى كل نفس وصلها ووفدها
يضيء دجنات الحياة جبينها ... وتبدو المعالي حيث أقلع جيدها
أخذ الرصافي يقذف بحممه في وجه الظالم المتربع على العرش ويهدي باقات عواطفه المعطرة لأمته الخاضعة فينعشها ويغذيها ويحفزها. حتى حدثت في نجد حوادث دامية بين ابن الرشيد حليف السلطان وابن السعود خصيمه فاهتبل السلطان الفرصة وساق على