ولست أشك في شاعرية الأعشى، ولا أقلل من قوة ومتانة الشعر الجاهلي وأثره في حياة العرب، بل أن الأمة التي أخرجت هذه الثروة الأدبية وقامت عليها دعامة الإسلام، لا بد أن أراضيها وبقاعها كانت أكثر جمالًا وعمراناً مما هي عليه الآن، ولي في هذا الرأي ما يمكن أن يقنعني ويقنع الناس بصحة ما أقول
ومع هذا فإني قد أنست بقراءة جزء كبير من شعر الأعشى وسأعود إلى شعره من آن لآخر، لأنه مورد لا ينضب، فيه كل الدوافع التي تحتاج إليها النفس، لكي تتريض على مواجهة حوادث هذه الحياة المرة
لقد قرأت له قصيدته التي مطلعها:
ذريني لك الويلات آتى الغوانيا ... متى كنت زراعا أسوق السوانيا
فما وصلت إلى البيت السابع الذي يقول فيه:
وإن بشر يوما أحال بوجهه ... عليك فحل عنه وإن كان دانيا
حتى وقفت أمام هذه الفلسفة التي تتمثل في حياتي التي أحياها اليوم، فكأن الأعشى يعبر عن كل ما خالج نفسي وملأ ضميري، وكأنني لم أفقد شيئا من محاسن الدنيا حينما أخذت بهذا الرأي
ويفسر الأستاذ الدكتور هذا البيت بقوله:
(وإن صد عنك رجل من الناس، فاصدد عنه كائنة ما كانت قرابته) كما فسر مطلع القصيدة. يقول:
(ذريني - لك الويل - أمتع نفسي من النساء: فما أنا بصاحب زرع؛ ولا أنا ممن يسوق الجمال)
وأختلف معه في تفسير كلمة زرع هذا التفسير، فأقول أنه يقصد الذرع من باب ذرع، وهو مما يذرع به. أي أنه يسوق الإبل فيقطع بها المسافات البعيدة فيسلمها لأصحابها ويعود ليسوق غيرها، فكأنه ذراع يقيس المسافات ويتلقى أجره عليها، ولا يستقر به مكان، فهو لا يقصد هنا صاحب زرع وقوله (ولعله من ساس الدواب يسوسها سياسة إذا قام عليها وراضها) ويظهر من شعر الأعشى أن المكلفين بإيصال الإبل وقطع الفيافي كانوا يتقاضون أجورا باهظة: ولقد عشت في وقت كانت قطعان الإبل تمر على بلادنا بإقليم الشرقية