وزاد في الإيناس والتلطف حتى تخيله الصبي والداً له، فاستحيا منه وتناول الأدوات والاحمرار باد على وجهه، والعرق يتصبب من جبينه، ذهب التلميذ مساء إلى البيت يحمل بيده الراعشة الهدايا من يد معلمه الأب المعنوي له. . .
ولكن الصبي عاد في اليوم التالي بالأدوات إلى المدرسة ودفعها إلى أستاذه مع رسالة من والدته تشكر المعلم على حسن صنيعه وتصرفاته مع ولدها ثم تعتذر من قبول الهدية وتقول:
إنها لا تريد أن ينشأ ولدها على مد يده للهدايا ما دام في يديها وعنقها حلي وأطواق تبيعها تباعاً لتنفقها على ولدها كلما أبصرته بحاجة إلى المال للحصول على اللازم من أدوات المدرسة وتكاليفها. .
هذه حادثة واقعية ليست من نسج الخيال يلفقها كاتب أو شاعر للدخول إلى قلوب القراء وتملقهم واستمالتهم ولفت أنظارهم إلى أسلوب خاص بالأدب القصصي: بل هي من القصص الواقعية التي نراها ونسمع عنها تصدر كل يوم عن هذا الشعب العربي الأبي الذي نهنهته النكبة وأذلته الفاقة وهو ما انفك محافظاً على إبائه وكرامته. . .
فإن دلت هذه الأفاحيص على شيء فإنما تدل على كبر هذه النفوس التي تحلي هذه الجسوم الصغيرة، وأنا لنأمل يوماً أن يستطير شررها فتنقلب إلى براكين جياشة تنفجر فتقض مضاجع أولئك المستعمرين الغاصبين الذين سببوا هذه النكبة، وسيكون إنقاذ البلاد السليبة ما تقاسى الآباء على أيدي هؤلاء الأحداث الذين تفتحت أعينهم على ظلام النكبة فغلت نيران الثأر في نفوسهم ورضعوها مع اللبن.