على أخذ هذه الهدية، فلأن أعيش جاهلاً ثم أهلك برداً وجوعاً وعرياً أحب إلي من سماع قول كهذا وأخذ يجهش بالبكاء. .
وكان هذا الولد ابن رجل ثري في حيفا يملك ثلاث بيارات واثنتي عشر مفتاحاً لدور ودكاكين ومخازن، وكان إلى جانب هذا يملك ثروة تقدر قيمتها بثمانين ألف جنيه ذهبت جميعها نهباً مقسماً لشذاذ الآفاق، حتى أن والده عندما شعر بأن السلطة الحاكمة هناك حالت دون وصول النجدة من المجاهدين الأشاوس إلى حيفا وألجأت أهلها إلى الخروج منها بالقوة، وأنها ساعدت الغزاة الغادرين على مطاردتهم منها، عاد إلى الدار ليحمل ما يقدر على حمله من الأموال، فقتل وهو هارب بها وسلبت منه، وقد علمت الأسرة بمصرعه وهي مؤلفة من زوجة ثكلى وولد وبنت، أما الولد فهو عامر صاحب قصتنا هذه، وأما البنت فهي التي عالت هذه الأسرة كما سترى، وأخيراً أتت هذه الأسرة المروعة بأعز عزيز لديها إلى حيفا، وقد أجلتها السلطة المنتدبة عن ديار الآباء والأجداد على الجملة، ولم تدعها تودع فقيدها الغالي ولو بنظرة أخيرة تلقي على جثمانه الطاهر الذي همد كالصرح مجندلاً بدمه، أجل أتت إليها تلك السلطة الشيطانية فأركبتها سيارة أقلتها إلى الميناء ومن ثم قذفوا بها في قارب مع من قذف من سكان حيفا ووجهتهم ميناء صيدا تحت وابل من رصاص الآثمين المعتدين. . .
وبعد مشقة وعذاب وصلوا إلى ميناء هذه المدينة الساحلية انتقلوا بعد ذلك إلى بيروت، وأقاموا حقبة من الزمن كأنها دهر، فزين لهم أقاربهم اللجوء إلى دمشق فأموها وهم في حالة يرثى إليها من التعب والمسغبة. . .
ولما وصلوا إليها متأخراً لم تدون أسماؤهم في جمعية الصليب الأحمر. وكان لا دخل لديهم إلا معاش البنت التي عينت معلمة للغة الإنجليزية في المدارس الخاصة، وذلك بعد أن من الله عليهم بالإقامة فيها وكانت الأجرة زهيدة. .
وكان المعلم يعرف هذا كله فلم يستغرب ما رأى وما سمع منه فرق لحاله، وأخذ يخفف عن الصبي ويسري عنه ويربت على كتفه ويقول:
- نعم العمل عملك يا بني، ونعمت النفس الأبية نفسك. ثم تقدم وأخرج من منضدته مجموعة ومسطرة وقلم رصاص ودفعها إلى الصبي بلطف راجياً منه قبولها هدية منه،