الخطرا، أو يحذرها عدوا، أو يعدها نصرا مؤزرا، حتى تثب كما يثب الجندي المستريح إلى سلاحه، فتعمل العجائب، وتصنع المعجزات، وتدع التاريخ حائرا من فعلها مشدوها
هذه هي الأمثلة تملأ العصور، وتترع صفحات التاريخ، الأمثلة من الشرق والغرب، من القديم والحديث، حيثما تلتقي وجدتم مثالا
هذه مصر! كانت على عهد المماليك، بلد الجهل والافتراق والضعف والتخاذل، فما هي إلا أن بعث الله لها محمدا عليا، حتى نهضت نهضة الأسد، فكانت لها المدارس والصحف والصروح والمصانع ومعامل السلاح، وكان لها الجيش الذي فتح الشام، وقهر الأتراك سادة الجحافل، وأبطال الميادين، وكاد (لولا مكر إنكلترا وغدرها) يهد عرش آل عثمان. وكان لها الأسطول الضخم الذي كاد (لولا تلك الجريمة التي لم يحاسب عليها بعد مجرموها) يعيد البحر المتوسط، بحر العرب، كما كان أيام عز العرب
وهذه جماعة الأتراك من آل عثمان! كانت قبيلة بدوية تسكن القفار، وترعى الأبقار، ليست في عير ولا نفير؛ فلما بعث الله لها عثمان وشرفه بالإسلام، صارت به وبخلفائه الأولين؛ ومراد والفاتح وسليم وسليمان، صاحبة القسطنطينية، ومالكة ما بين خراسان وأسوار فينا، وصار البحر المتوسط بحيرة في أملاكها
وهذه فرنسا! ماذا كانت فرنسا في أعقاب ثورتها؟ أمة الفوضى والانحلال، والحيرة والضلال، والتبدل من حال إلى حال؛ فما هي ألا أن جاءها نابليون حتى ملكت تحت لوائه أوربة كلها، وصارت أمة الأمم
وهذه روسيا! كانت بلاد أدنى إلى الهمجية والجهالة، فما هي إلا أن جاءها بطرس حتى غدت به بلدا أوربيا من بلاد المدينة والعمران
بل هذا هو المثل الأغر المحجل، الذي لا تادنيه الأمثلة، ولا تضارعه في سموه النهضات
هذه القرية التي كانت ممتدة وراء الرمال، نائمة في ظلمات من الجهل والفقر والجدب فوق الظلمات، لا تدري بها المدن الكبار، ولم يسمع بها التاريخ، هزها بيمينه سيد العبقريين، وأعظم العظماء، من كان في الأرض سفير السماء، وكان إمام الرسل وأفضل الأنبياء: محمدهزها، فإذا هذه الرمال المحرقة التي لا تعيش فيها الحياة، تنبت السهول الخصاب، والرياض والجنات! وإذا هذه القرية الضائعة تلد المدن العظام: الكوفة والبصرة وبغداد