الدموع فقال لهم حينذاك بصوت داو كالرعد: أعلموا أن البكاء للنساء. والسلطان محمود الغزنوي ما أتي إلى الهند باكياً بل أتى شاكياً للسلاح. ولا حياة لقوم لا يستقبلون الموت في سبيل الاستقلال بثغر باسم: ثم نهض مسرعاً إلى رجل الحكومة لكي يذهب معه حيث شاء فقال له: مهلاً فالسفر غداً. فقال جمال الدين: إلى أين تريدون أن أذهب؟ قال الرجل: إلى حيث تشاء بعد أن تبرج الهند. وفي الصباح سيرته الحكومة إلى السويس ومنها إلى مصر فمكث فيها نحواً من أربعين يوماً تردد خلالها على الأزهر وتعرف إلى الصفوة المختارة من رجال العلم والثقافة، فأحبهم وأحبوه وطلبوا منه أن يقرأ لهم شرح الإظهار فقرأ لهم جانباً منه في بيته. ثم سافر إلى الآستانة فالتقى بالصدر الأعظم علي باشا فعرف له الصدر فضله وأحله محلا لم يسبق لمثله أن حل فيه. وبعد ستة شهور من إقامته في الآستانة عين عضواً في مجلس المعارف فأدى حق النصح لتعميم التعليم بطرق لم يوافقه عليها رفقاؤه في المجلس ومنها ما أحفظ عليه قلب شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي لأنها كانت تمس شيئاً من رزقه فأضمر له الشر حتى كلفه مدير كلية دار الفنون أن يلقى خطاباً يحث به على الصناعات. فألقى ضافياً في هذا الموضوع فشبه المعيشة الإنسانية بالبدن وأن كل صناعة منزلة العضو من ذلك البدن، أما روح ذلك البدن فهي إما النبوة أو الحكمة فاصطنع شيخ الإسلام الحاقد من هذا القول وسيلة للنيل من جمال الدين بحجة أن جمال الدين يزعم أن النبوة حرفة من الحرف، فدافع جمال الدين عن نفسه وطلب محاكمة شيخ الإسلام على هذه القرية، ولكن الصدر الأعظم المعجب بجمال الدين من جهة والمسئول عن الحكومة من الجهة الأخرى رأي أن يغادر جمال الدين الآستانة كحل لهذه المشكلة، فغارها إلى مصر. فكانت فرصة سعيدة لمصر والعالم العربي والإسلامي فقضى جمال الدين فيها ثماني سنين كان خلالها قطب رحا الحركة العلمية والأدبية ومحور دائرة السياسة العربية والإسلامية ليس في مصر فحسب بل في العالمين العربي والإسلامي قاطبة. هبط جمال الدين مصر في عهد إسماعيل وعهد إسماعيل عهد التقى فيه النقيضان، أفراح الإمارة وأفراح الشعب. واختلطت فيه رنات الضحك في قصور الأمراء بأنات الأسى والحزن في كل بيت من بيوت الشعب المصري وذلك بسبب ما كان عليه إسماعيل من التبذير في النفقات مما أضطره أن يقسو في فرض الضرائب على الشعب ويستدين فوق ذلك من الأجانب ما أثقل