قليل حتى هبت الأمة الإنجليزية كلها تنادي بالقضاء على هذه التجارة الخاسرة، وكانت إنجلترا أسبق الأمم إلى هذه الدعوة الكريمة، ولم يكتف الشعب الإنجليزي بذلك بل جاد أبناؤه بأموال طائلة لشراء وطن في غرب أفريقية للعبيد المعتقين ثم تبعتها الأمم الأخرى في ذلك
لم أكد أفرغ من قراءة هذه الفقرات من الدرس حتى رأيت التعب قد طار عن وجوه التلاميذ كما يطير النعاس عن عين المذعور، وأحسست أن أعصاب التلاميذ المتهدجة من الإرهاق قد شدت من فورة الحماس وأنهم قد صبت فيهم قوة الأسد المتأهب للوثوب، وأخذت أقرأ في وجوه التلاميذ وعيونهم الارتياب في صحة ما ينطوي عليه هذا الكلام، وأخذوا يمطرونني بوابل من الأسئلة؛ فمن سائل يقول:
إذا كانت إنجلترا حقا هي أول من نادي بإبطال تجارة الرقيق فلماذا هذا الاستعمار المسعف؟ وهل هناك فرق بين الاستعمار والرق في نظر إنجلترا؟
وتطوع تلميذ بالإجابة عن هذا السؤال قائلا: أن الاستعمار ابشع أشنع من الرق لأن الرق استرقاق أفراد ولكن الاستعمار استرقاق شعوب، وقد يعتمد الرقيق على سيدة في مالكه وملبسه ومطالب عيشه ولكن الاستعمار يستحوذ على أقوات الشعوب وكسائها بل يمتص دماءها. . والرقيق يشترى بثمن ولكن الاستعمار ليس كذلك. ٠ ولكن كان محرجا حقا ذلك السؤال الآتي:
كيف يشتري الإنجليز وطنا في غرب إفريقية للعبيد المعتقلين وهم اليوم يغتصبون الأوطان من الأحرار المسودين بل وقبل اليوم بعشرات السنين؟
وما أن انتهى التلميذ من إلقاء هذا السؤال حتى رمقته بنظرة الإعجاب ونظر التلاميذ إلى ينظرون الإجابة وعلى شفتهم ابتسامة خبيثة، وكأنهم فهموا أن المدرس يجب عليه أن يجيب عن كل سؤال حتى ولو كان السؤال لا يستطيع أن يجيب عنه البرلمان الإنجليزي ولا إيدن ولا تشرشل. . . وشاءت المصادفات أن تمر في شارع المدرسة هذه الساعة دبابتان إنجليزيتان فتفزع الشارع بصوتهما الأجش الغليظ فينسى التلاميذ الإلحاح في طلب الإجابة، والقيت على الدبابتين نظرة من نافذة الفصل فوجدتهما تهرولان وفيهما المدافع والجنود؛ وقد رآهما الأطفال الذين كانوا يلعبون بجمع الحصى من الصحراء المشرفة عليها