ثم يمضي في هذا الطور حتى ينتهي إلى كهولته في العصر العباسي الأول. وهو يستقبل عهد الجديد حاملا إليه ما حصل الشباب، وفيضا غير كبير مما كان عليه من أريحية وحمية وحماسة، وإنه ليمضي في عهده هذا مستوعبا لما حوله من مختلف ألوان العيش، منتفعا منا يحيط به من الثقافات والمعارف. مستجيبا لما يحف به من حضارة وترف ونعيم. ومع هذا فقد هبطت درجة حرارته. وناله كثير من الفتور والإعياء. وأصبحت صور الأداء قوالب محفوظة تصلح لكل ما يملأ منها الفراغ. وأمحت فيه أو كادت تلك السلائق الغنائية المستجببة المشبوبة. أو قل صارت رواسب عقلية فحسب. ولكن الغناء أصل من أصوله ولا معدي للشعر عنه بحال. فليستعض عنه بتلك الغنائية التي تجئ نتيجة لتلاؤم الجمل والعبارات والألفاظ. ولهذا فهو مجرد فن فقط، يظفر به من يعانيه بشيء من الدربة والممارسة، وبالبصر بمنازع الكلام. وهو في عمومه ككل شيء تلده المدنية يروقك منه الصقل والتنسيق ولكنه قلما ينبض فيه روح، وإن لم يخل من الألمعية والنفاذ أحيانا. ولقد استتبع خلوه من الروح خلوه من الموضوع؛ وبالتالي فقد الوحدة التي تربط بين عناصر الأثر الفني المحتفل به. وبذلك فهو معرض للحياة بكل ألوانها ما اختلف منها وما ائتلف. ولا ريب في أنه احتفظ بأكثر مما ينبغي من تقليد للقديم، ومن ترسم له لخطاه ولئن اتخذ مادته مما حوله من حياة، فهو قد اتخذ أيضاً أدوات التصوير لها، والتعبير عنها من حياة البادية دون الحياة المعاصرة له، تلك التي كان ينبغي له ألا يعدوها في شيء سواء في ذلك مادته أو وسائل الإفصاح عنها والأداء. وليس من العجب في رأينا - وإن لم يكن من الحسن - أن يرجع إلى الحياة البادية فيتخذها موضوعا؛ أو يتخذ منها أداة للبيان. فهو كما قلنا، وكما قلنا، وكما نريد أن نقول، كائن حي. وأي عجب في أن يرجع الكائن الحي إلى ذكرياته وفي وسعه الرجوع إليها. تلك التي قد تتيح له العزاء والسلوى. أو تحقق له المثل الأعلى فيما هو منه بسبيل. ثم هل انقطعت تلك الوشائج التي تربط بين حاضره وماضيه. ومن المحقق أنها لم تنقطع. بل هي أوثق وأقوى مما كان يجب أن يكون. وشيء آخر يجب أن نلفت إليه النظر في هذا المقام. وهو: ما هي الصلة بين الأديب والأدب. وعندي أنها صلة الموصل الكهربائي بالتيار. أو هي صلة الشعلة بحاملها يتسلمها ثم يذكيها ويعدو بها ليدعها آخر الشوط إلى من يضع بها صنيعه وهكذا. ثم ما هو الأدب؟ أليس الأدب في