فما كان للفلسفة أن تقتنع بهذا وهي ناصرة الفكر الحر، صناعة مناهج البحث، فرأت أن تحرر نفسها من أكبال الغيبيات، وأن تنهج على منهاج العقل علها تصل بذلك إلى المعرفة وتدرك الحقيقة وتفهم غاية الوجود. . وبدأ الزمان يسجل على صفحات القرون وخرج لنا تاريخ الفلسفة زاخراً كما أسلفنا بمآت من المذاهب الفلسفية والآراء النظرية في الوجود وفي الحياة، ويتيه الإنسان في غمارها، لا يدري أين الحق من هذا المذهب أو ذاك، وأين الرأي السديد من هذه النظرية أو تلك، ثم لا يخرج من بينها إلا وذهنه أشد فراغا، إلا من سيل دافق من علامات الاستفهام والتعجب يوشك أن يؤدي بعقله إلى محيط مظلم من الشك والإلحاد!
إن الفلسفة أرادت أن تدل الناس على المعرفة فلم تستطع. أنها أرادت أن ترسم سبيل الحقيقة فلم توفق. . . لماذا؟ ذلك لأن الفلسفة قد ترضي العقل النظري، وقد ترضي الاستدلال المنطقي، ولكنها لا تستطيع بحال أن ترضي الإحساس الروحي، والذوق القلبي، وطريق المعرفة إنما يلتمس بالروح لا بالعقل، ويطلب بالذوق والقلب لا بالمنطق والفكر!
ولا تعجب بعد ذلك إن رأيت الفلاسفة يجهدون، عقولهم وأفكارهم القرون الطوال بحثاً عن المعرفة، ثم يغادرون الحياة ولما يعرفوا سبيلها، بل يغادرونها جهالاً كما دخلوها، كما يؤثر عن سقراط الذي قال هو على فراش الموت:(الآن أعرف من الدنيا حقيقة واحدة وهي أني لا أعرف شيئاً!)
هذا، وفي الوقت الذي كان فيه الفلاسفة يسعون سعيهم، كان الذين عرفوا السبيل الصحيح من المتصوفة وأرباب الأذواق والمواجيد يطلبون المعرفة عن طريق تصفية النفس والتسامي بها من أدران المادة وشوائب الحس، إلى عالم النور والفيض والإلهام، ووصل هؤلاء الروحيون إلى بغيتهم فكانوا الرواد الأول، وكانوا مكتشفي الحقيقة، والراسمين سبيلها للحائرين في الأرض. . وقرر هؤلاء أن منهاج المعرفة منهاج واحد فريد هو مجاهدة النفس، فنها تشرق الروح وتتم النعم وتكمل السعادة
فيا من تريد قلباً يقظاً تدرك به حقائق الوجود، عليك بالنفس فادرس مراتبها وظلماتها ومقامات صفائها، وعليك بهيكل الجسم الحائل فروضه على الرياضة الروحية الصادقة