وخلصه بقدر من علائق الدنيا، ثم عليك من فورك بالطريق إلى الله فتعرف آداب سالكيه، ثم شد الرحال إليه صوب مقامه الأسنى وهناك في المعية الأولى الذي فاض منه الوجود بكل ما فيه ستعرف حقيقة إنسانيتك وحقيقة الكون الذي تعيش فيه، وحقيقة الحياة التي تحياها، وفي ذلك الفرصة الكبرى والسعادة العظمى
وإليك الغزالي حجة الإسلام وفيلسوفه الأكبر خير مثل على ما يقول، إن نفس هذا الفيلسوف العظيم تاقت في بداية حياته الروحية أن تصل إلى المعرفة، وتحرقت شوقاً للوصول إلى الحقيقة، فانطلق يطلبها عند أدعيائها من الفلاسفة والمتصوفة والمتكلمين، وكان في سعيه بادئ القلق، عظيم اللهفة، فوقع ضحية صراع نفسي مرير ظل يعانيه وهو دائم التردد على تلك الطوائف، فبلى أمر الفلاسفة فلم يجد عندهم ضالته، وبلى أمر المتكلمين فلم يعثر عندهم كذلك على بغيته. . . وأخيرا لجأ إلى التصوف، فأفهمه أربابه أن ضريبة المعرفة عندهم تجرد ومجاهدة، فكانت نفسه أن تستكين، ولكن روحه المعذبة كانت تناديه من الأعماق (الرحيل، فإنه لم يبق من عمر له إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل) فاستجاب لهذا الهاتف الباطني، وترك بغداد مسقط رأسه مهاجراً إلى الله صوب ربوع الشام وهو يردد:
تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل ... وعدت إلى محبوب أو منزل
ونادت بي الأشواق مهلا فهذه ... منازل من تهوى رويدك فأنزل
وهناك وجد في زلال التصوف راحة النفس، وهدوء البال وسعدت روحه بالمعرفة المشرقة والسعادة الحقة، وعبر عن ذلك بقوله:
فكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخلل