وأذكر - على خجل شديد - أن معلما من معلمي المدارس المصرية، لقبني ذات يوم وأنا أقرأ كتاباً حديثاً في الجغرافيا، فأنكر مني ما رأى، وأبدى دهشته لأنني وقد أتممت تعليمي - فيما يزعم - منذ بضع وعشرين سنة، لم أزل بحاجة إلى قراءة كتاب جديد في الجغرافيا.
ومما أعان على إنشاء هذه العقيدة في نفوس بعض المتعلمين من شبابنا، فكرة (الكتاب المقرر) التي لم تزل المدرسة المصرية تأخذ بها؛ فللطبيعة كتاب مقرر، وللكيمياء كتاب مقرر، فليس يسوغ للمعلم ولا يتأنى للتلميذ أن يستعين في مادة من مواد العلم بغير الكتاب المقرر لها، إلا على حذر ورقبة، خشية الاتهام بالخروج على الطاعة أو الاتهام بقصد الاستغلال؛ فنشأ من ذلك الاعتقاد أو شبه الاعتقاد بأن العلم كله في تلك الكتب، وليس في غيرها من الكتب إلا فصول من العلم ليس فيها كبير غناء!.
وهناك سبب ثالث يتصل أوثق اتصال بالسببين السابقين، هو اعتقاد أو شبه اعتقاد في نفوس المعلمين بأن مهمة المدرسة هي التعليم، أي إعطاء العلم؛ وهذا خطأ كبير، يجب أن يزول من نفوس المعلمين ليزول بعد ذلك من نفوس تلاميذهم؛ فإن زمن المدرسة محدود، ضيق أشد الضيق: ساعات في اليوم، وأيام في الأسبوع، وأشهر في السنة، وسنون قليلة من عمر الشباب؛ والعلم شيء كبير، واسع كل السعة، ليس له حدود ولا قيود، وهو لم يزل يزيد كل يوم ويتجدد، فينسخ الجديد القديم، ويصير علم الأمس جهلاً وغفلاً وسذاجة؛ فكيف تتسع المدرسة في نطاقها المحدود ووقتها الضيق لاستيعاب ذلك العلم الواسع المتجدد؟.
ولو أن معلمي المدرسة وتلاميذها قد آمنوا كما نؤمن بأن مهمة المدرسة ليست هي إعطاء العلم بل تمهيد الطريق إليه، لحملهم الإيمان بهذه الحقيقة على الاستمرار في طلب العلم بالقراءة المتصلة بعد الخروج من المدرسة، وعلى متابعة الجديد في الأدب والعلم والفن بالاطلاع الدائب. . .
فالمدرسة المصرية إذن هي السبب الأول لهذه الأزمة الشديدة التي تحس آثارها في أنفسنا وفيما حولنا، ولكنها ليست هي كل السبب؛ فهناك أسباب أخرى مساعدة كان لها أثر كبير في إحداث هذه الأزمة، ولعلنا نعرض لها في حديث تال. . .