إن هؤلاء الآلاف الذين غادروا المدرسة (متممين واجباتهم) ليسوا خيراً من الآلاف الآخرين الذين تخلفوا عن موكب العلم فلم يدخلوا مدرسة ولم يتلقوا العلم على معلم؛ لأن هؤلاء وأولئك أميون بالمعنى العام، لا يمحو وصمة الأمية عن بعضهم أنهم (يستطيعون) أن يقرءوا، ما داموا لا يقرءون بالفعل؛ ولا يستخدمون (نظارة القراءة) التي منحتهم إياها المدرسة في النظر إلى كل صفحة مكتوبة تقع تحت أعينهم!.
إن القراءة في المدرسة المصرية ليست إلا (أصواتاً) تتمرن عليها حناجر التلاميذ وأشداقهم وألسنتهم في دروس المطالعة، ثم لا شيء بعد ذلك. والتلميذ الذي يبلغ درجة النجاح في الدروس القراءة هو التلميذ الذي يحسن أن (ينطق)، وأن يرتفع صوته في موضع وينخفض في موضع، وأن يضع حركات الإعراب في مواضعها من أواخر الكلمات أو من أواسطها؛ وقد يغلو بعض المعلمين بعد ذلك فيسأل تلميذه تفسير عبارة، أو تلخيص جملة أو نقد كلمة، أو ذكر نظير؛ ولكنه لا يمكن أن يذهب في الجرأة إلى أبعد من ذلك فيدفع إليه كتابا يقرؤه وحده ليناقشه في موضوعه بعد ذلك. ولو أن معلما من المعلمين ذهب في الجرأة إلى هذا الحد، لأحيل إلى إحدى لجان التأديب، أو لجان التطهير، متهماً بترويج كتاب غير مقرر للقراءة!.
هذه القاعدة التي تأخذ بها وزارة المعارف المصرية معلميها في المدارس ويأخذ بها المعلمون تلاميذهم، قد أحذ بها التلاميذ أنفسهم، فلم تتهيأ لهم الفرصة ليعرفوا أن (القراءة) شيء غير تلك الأصوات المنغمة التي تتفق مع قواعد النحو، فلم يحاولوا أن يقرءوا، وكان ذلك أول أزمة الثقافة!.
وثمة سبب آخر وثيق الصلة بهذا السبب الأول، هو أن المدرسة المصرية - أيضاً - تكاد تغرس في نفوس تلاميذها أن العلم هو ما يتعلمون فيها، وهو كل ما يحتاجون إليه ليكونوا مثقفين، فليس وراء ما تعطيهم من ذلك العلم غاية لمستزيد؛ فالتاريخ كله في كتب التاريخ المقررة، والأدب كله في كتاب النصوص، والشعر خير الشعر هو ما قرءوه في تراجم الشعراء. وقل مثل ذلك في كل فنون لمعرفة، حتى ليكادون يحصرون علم الكون كله في كتب الصوت والضوء والكهربا التي يؤدون فيها امتحانهم آخر العام!.