وكان في مصر قبل ربع قرن أدباء منقطعون لفنونهم، منهم صاحب وظيفة لا يوصف بها وإنما يوصف من يوصف منهم بالأدب وحده، وقد يكون لبعضهم أو لكلهم مرتزق آخر يعيش من فيضه، ولكنه شأن من شئونه الخاصة لا يتراءى له ظل واضح على ما ينتج من فنونه ولا يدخل في حكم النقاد حين يتناولون ما ينتج من تلك الفنون؛ فكان ذلك نوع من الإيمان بالأدب يرتفع به عن مستوى نراه قد انحدر إليه الآن ويوشك أن يلوث بعض الأدباء ببعض وحل الطريق!.
هي إذن أزمة شديدة تتصل بالمنتجين وبالمستهلكين جميعاً، ويوشك أثرها أن يمتد إلى حياتنا العامة ويتغلغل ويؤدي إلى نتائج بعيدة المدى. . .
ولا أريد أن أسترسل في وصف ما ينتظر أن يكون لو مضت بنا هذه الأزمة إلى غايتها؛ ولكني أريد أن أتتبع أسباب هذه الأزمة من حيث نشأت.
وأول ما أعرف من هذه الأسباب أن المدرسة المصرية اليوم لا ترى من واجبها أن تعلم تلاميذها القراءة، مكتفية بتعليمهم (فك الخط) وفرق ما بين فك الخط والقراءة بعيد جداً، كالفرق بين الأمية والثقافة، أو كالفرق بين درس في السباحة في حجرة الدراسة أو في فناء المدرسة، ودرس آخر يتعلمه بالسبح في البحر الهائج ولو لم يكن معه معلم ولا رائد. وأنا لست أعرف ولا أظن أحدا غيري يعرف سابحا اكتفي في تعلم السباحة بقراءة كتاب ثم ألقي بنفسه إلى البحر يتحدى أمواجه!.
لقد زعموا في الفكاهة أن ثرياً من أثرياء الحرب قصد إلى طبيب ليصنع له نظارة للقراءة، فضبط الطبيب مقاييسه وألقى أضواءه واختبر الجفن والحدقة والقاع والعصب، ثم دفع إلى الرجل النظارة التي طلبها وهو لا يشك أنه سيقرأ بها؛ فوضعها الرجل على عينيه ثم تناول صحيفة من الصحف وهم أن يفك خطوطها ولكنه لم يستطع أن يقرأ حرفاً، فرد النظارة إلى الطبيب مغضباً لأنها لم (تعلمه) القراءة ولم تنقله من أميته العريقة إلى مستوى القارئين الكاتبين.
ما أشبه ذلك الثرى الأمي الذي زعم أن (نظارة القراءة) يمكن أن تنتشه من وهدة الأمية، بالمدرسة التي تكتفي من تعليم القراءة والكتابة بتعويد تلاميذها أن يرسموا الحروف الهجائية وأن تتحرك ألسنتهم بأصواتها معريين، ثم تزعم أنها علمت كذا وكذا ألفا فأصبحوا