إن القارئ الكاتب الذي يصح أن يوصف بأنه قد خرج من نطاق الأمية، ليس هو (المتعلم) الذي اكتسب بالتعليم قدرة على أن يقرأ وأن يكتب، ولكنه القارئ الحقيقي الذي تعود أن يقرأ منذ اكتسب بالتعليم القدرة على أن يقرأ. إنه القارئ بالفعل لا بالقوة. فأين من متعلمينا أولئك القراء الحقيقيون؟ وكم يبلغ عددهم؟ على هذا الأساس ينبغي أن يقوم الإحصاء إن كنا نريد برهانا صحيحاً على أننا نعيش في شعب ناهض، وهو برهان لم نزل نلتمسه فلا نكاد نصل إليه، ولا نأمل أن نصل إليه في وقت قريب، لا بالكم ولا بالكيف، ما دمنا لا نلتمس السبيل إليه من بابه. . .
هذا، وقد كان عدد المتعلمين في مصر منذ ربع قرن لا يتجاوز المليون، ولكني أزعم - وتحت يدي من البراهين ما يؤيدني - أن مصر في ذلك التاريخ كانت أبعد عن الأمية مما هي اليوم؛ فقد كان في مصر من القراء الحقيقيين أكثر ممن فيها الآن وقد بلغ عدد (المتعلمين) خمسة ملايين. . . لقد كان فيها قراء من كل الطبقات يتابعون إنتاج طه حسين، والعقاد، وهيكل، والمازني، والرافعي، وشوقي، وحافظ، ومطران، وغير هؤلاء من ذوي الفكر والبيان، ويتتبعون ما تخرجه المطبعة العربية من كتب الأدب والفن للمحدثين والقدماء؛ ثم يتناولون كل ما قرءوا من ذلك بالنقد أو بالحديث في المجالس الخاصة أو في المجالس العامة أو في الصحف والمجلات. وقد يغلون في ذلك غلوا يقسم القراء إلى معسكرات متقابلة ينتصر كل منها لرأي أو لصاحب رأي، انتصاراً رفيقاً يبدو في أنواع هادئة من الجدل، أو انتصاراً عنيفاً يبدو في بعض المعارك التي كانت تنشب بين تلك المعسكرات فلا تكتفي بالجدل الهادئ دون تناول الموضوع المختلف عليه من حيث صلته بالدين أو بالسياسة أو بالأمور الشخصية. . .
كذلك كان الحال وعدد (المتعلمين) في مصر لا يزيد على المليون؛ فكم قارئا من الملايين الخمسة (المتعلمين) اليوم يتابع إنتاج أهل الأدب والفكر كتاباً كتاباً وموضوعاً موضوعاً ورأياً راياً على اختلاف جو القول والعمل، ليعرف أين يمضي بنا أهل الأدب هؤلاء، أو كيف تتطور بهم الحياة على اختلاف الأجواء التي يقولون فيها ويعلمون ويعيشون؟ وكم قارئا منهم يتتبع ما تخرجه المطبعة العربية من كتب القدماء والمحدثين فيتناوله بالنقد أو بالحديث؟.