وكيف يستعبدون بها الناس استعباداً أصولياً مستحكماً، كما هو الحال في أوربا المتمدنة المهدَّدة بشروط الفوضويين بسبب اليأس من مقاومة الاستبداد المالي فيها.
ومن طبائع الاستبداد أنَّه لا يظهر فيه أثرُ فقر الأمة ظهوراً بياناً إلا فجأةً قُرَيب قضاء الاستبداد نحبه. وأسباب ذلك أنَّ الناس يقتصدون في النسل، وتكثر وفياتهم، ويكثر تغرّبهم، ويبيعون أملاكهم من الأجانب، فتتقلّص الثروة، وتكثر النقود بين الأيدي. وبئست من ثروة ونقود تشبه نشوة المذبوح.
ولنرجع إلى بحث طبيعة الاستبداد في مطلق المال فأقول: إنَّ الاستبداد يجعل المال في أيدي الناس عرضةً لسلب المستبدّ وأعوانه وعمّاله غصباً، أو بحجةٍ باطلة، وعرضةً أيضاً لسلب المعتدين من اللصوص والمحتالين الراتعين في ظلِّ أمان الإدارة الاستبدادية. وحيث المال لا يُحصَل إلا بالمشقّة، فلا تختار النفوس الإقدام على المتاعب مع عدم المنِّ على الانتفاع بالثمرة.
حِفْظُ المال في عهد الإدارة المستبدّة أصعب من كسبه؛ لأنَّ ظهور أثره على صاحبه مجلبة لأنواع البلاء عليه، ولذلك يُضطر الناس زمن الاستبداد لإخفاء نعمة الله والتّظاهر بالفقر والفاقة، ولهذا ورد في أمثال الأُسراء أنَّ حفظ درهم من الذهب يحتاج إلى قنطار من العقل، وأنَّ العاقل من يخفي ذهبه وذهابه ومذهبه، وأنَّ أسعد الناس الصعلوك الذي لا يعرف الحكّام