ومن طبائع الاستبداد، أنَّ الأغنياء أعداؤه فكراً وأوتاده عملاً، فهم ربائط المستبدِّ، يذلُّهم فيئنّون، ويستدرّهم فيحنّون، ولهذا يرسخ الذلُّ في الأمم التي يكثر أغنياؤها. أما الفقراء فيخافهم المستبدُّ خوف النعجة من الذئاب، ويتحبب إليهم ببعض الأعمال التي ظاهرها الرأفة، يقصد بذلك أن يغصب أيضاً قلوبهم التي لا يملكون غيرها. والفقراء كذلك يخافونه خوف دناءةٍ ونذالة، خوف البغاث من العقاب، فهم لا يجسرون على الافتكار فضلاً عن الإنكار، كأنهم يتوهَّمون أنَّ داخل رؤوسهم جواسيس عليهم. وقد يبلغ فساد الأخلاق في الفقراء أن يسرّهم فعلاً رضاء المستبدِّ عنهم بأيِّ وجهٍ كان رضاؤه.
وقد خالف الأخلاقيون المتأخِّرون أسلافهم في قولهم، ليس الفقراء بعيب، فقالوا: الفقر أبو المعائب؛ لأنه مفتقرٌ للغير، والغناء استغناءٌ عن النّاس، ثمَّ قالوا: الفقر يذهب بعزّة النفس، ويفضي إلى خلع الحياء، وقالوا: إنَّ لحسن اللباس والأمتعة والتنعّم في المعيشة تأثيراً مهماً على نفوس البشر، خلافاً لمن يقول: ليس المرء بطيلسانه، وحديث (اخشوشنوا، فإن النعم لا تدوم) هو لأنّه يحمل على التعوّد جسماً على المشاقّ في الحروب والأسفار وعند الحاجة. فقالوا: إنَّ رغد العيش ونعيمه لمن أعظم الحاجات، به تعلو الهمم، ولأجله تُقتَحم العظائم.
يُقال في مدح المال: إنَّ ما يحلُّ المشكلات الزمان والمال. القوة