شاعت بين الأسراء قواعد كثيرة باطلة كقولهم: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، وقولهم: البلاء موكولٌ بالمنطق. وقد تغالى وعّاظهم في سدِّ أفواههم حتى جعلوا لهم أمثال هذه الأقوال من الحِكَم النبوية، وكم هجوا لهم الهجو والغيبة بلا قيد، فهم يقرؤون:{لا يحبُّ اللهُ الجهر بالسّوء من القول} ويغفلون بقية الآية، وهي:{إلاّ من ظُلِم}.
أقوى ضابط للأخلاق النهي عن المنكر بالنصيحة والتوبيخ؛ أي بحرص الأفراد على حراسة نظام الاجتماع، وهذه الوظيفة غير مقدور عليها في عهد الاستبداد لغير ذوي المنعة وقليل ما هم، وقليلاً ما يفعلون، وقليلاً ما يفيد نهيهم؛ لأنه لا يمكنهم توجيهه لغير المستضعفين الذين لا يملكون ضرراً ولا نفعاً، بل ولا يملكون من أنفسهم شيئاً، ولأنَّه ينحصر موضوع نهيهم فيما لا تخفى قباحته على أحدٍ من الرّذائل النفسية الشخصية فقط، ومع ذلك فالجسور لا يرى بُدّاً من الاستثناء المخلِّ للقواعد العامة كقوله: السّرقة قبيحة إلا إذا كانت استرداداً منها، والكذب حرام إلا للمظلوم. والموظَّفون في عهد الاستبداد للوعظ والإرشاد يكونون -مطلقاً- ولا أقول غالباً، من المنافقين الذين نالوا الوظيفة بالتملّق، وما أبعد هؤلاء عن التأثير، لأنَّ النصح الذي لا إخلاص فيه هو بذر عقيم لا ينبت، وإنْ نبت كان رياءً كأصله، ثمَّ إنَّ النُّصح لا يفيد شيئاً إذا لم يصادف أذناً تتطلّب سماعه؛ لأنَّ النصيحة وإن كانت عن إخلاص فهي لا تتجاوز حُكْمَ البذر الحيّ: إنْ أُلقي في أرضٍ صالحة نبت، وإن أُلقي في أرضٍ قاحلة مات.