الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلا زال الحديث في بيان الأحكام التكليفية التي ذكر المصنف (رحمه الله تعالى أنها خمس) وبدأ بالواجب، وذكرنا أن الواجب هنا ليس هو قسما من أقسام الأحكام وإنما هو فعل المكلف، تعلق به الإيجاب فهو من متعلقات الحكم وليس من أقسامه، وقد وهمت بالأمس وعرفت الإيجاب بأنه ما طلب الشارع فعله طلبا جازما، وهذا ليس بصحيح بل هو وَهَم، وإنما نقول الإيجاب هو الخطاب المقتضي للفعل اقتضاء جازما، لأن الإيجاب هو نفسه الخطاب، فذكرت أن تعريفه ما طلب الشارع، هذا هو الحق، فنقول: ماذكره المصنف هنا، قوله:"واجب يقتضي الثواب على الفعل والعقاب على الترك" نقول هذا التعريف بالثمرة واللازم والحكم، والثمرة واللازم والحكم هذه فرع، والحكم على الشيء نقول فرع عن تصوره، إذن ما تصور حقيقة الواجب الذي هو فعل المكلف؟ نقول:"ما طلب الشارع فعله طلبا جازما" إذن الواجب الذي هو صفة فعل المكلف له حكم وله حقيقة، حقيقته تدرك بالحد والتعريف، تعريفه: نقول: "ما طلب الشارع فعله طلبا جازما".
(ما): هذه اسم موصول بمعنى (الذي) يصدق على فعل المكلف، حينئذ يكون جنسا، بمعنى أنه تدخل فيه الأحكام التكليفية الخمسة، (طلب): خرج من قوله (ما) الذي هو جنس الإباحة أو المباح، لماذا؟ لأنه لا طلب فيها، "طلب الشارع فعله" خرج المكروه والمحرم، لأن الشارع طلب تركه، بقي معنا المندوب، حينئذ نقول:"طلبا جازما" بمعنى أنه لا يجوز له الترك، بأن رتب العقاب على ترك الفعل فخرج به المندوب، هذا هو حقيقة الواجب الذي هو صفة فعل المكلف "ما طلب الشارع فعله" حكمه، ثمرته، نقول ما يثاب على فعله امتثالا ويعاقب على تركه، أما الإيجاب الذي هو صفة الطاعات، الذي هو القرآن نفسه، الذي هو صفة الحاكم، نقول "الخطاب المقتضي للفعل اقتضاء جازما"، "الخطاب المقتضي" يعني الطالب للفعل، خرج به الخطاب المقتضي للترك وهو التحريم والكراهة، "المقتضي للفعل اقتضاء جازما" خرج به الخطاب المقتضي للفعل اقتضاء غير جازم وهو المندوب، ولذلك [ ... ] كما سبق، ثم قال بعدما انتهى من حد الواجب وحقيقته والمسائل التي يتعلق بها:"ومندوب" ومندوب هذا معطوف على قوله "واجب" = "تكليفية وهي خمسة: واجب ومندوب" و"مندوب" هو القسم الثاني من أحكام الشرع التكليفية ويقال فيه ما قيل في الواجب، أنه في الأصل صفة فعل المكلف، فحينئذ عرَّف الحكم الشرعي من حيث تعلقه بفعل المكلف، والمندوب هذا من جهة الصيغة اسم مفعول من (نَدَبَ يَنْدُبُ) فهو (مَنْدُوبٌ) والأصل أنه يقال مندوب إليه، أي مدعوٌّ إليه ولكن هذه تسمى عند أهل اللغة الحذف والإيصال، مندوب إليه = يُحذَف (إلى) ثم يتصل الضمير بالمندوب، وهو اسم مفعول فيستتر فيه، يسمى حذفا وإيصالا، الحذف للحرف والإيصال للضمير المستتر، الضمير الظاهر يصير ضميرا مستترا، حذفت الحرف ووصلت الضمير بعامله الأصلي وهو المندوب، لأنه اسم مفعول فيرفع نائب الفاعل، قلنا "مندوب" مشتق من الندب، حقيقة الندب في اللغة الدعاء، وبعضهم يقيده بـ (الدعاء بأمر مهم).