ما يقرب من ستين آية تتحدث عن الغزوة في أطول حديث عن غزوة في القرآن بدءًا من قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: ١٢١].
وانتهاء بقوله سبحانه: {مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: ١٧٩].
ثانيًا: الابتلاء من عند الله
وهذه حقيقة يقينية ينبغي أن نعتقدها، ونتذكرها، ونستحضرها في كل أمور حياتنا، فالله عز وجل هو المعطي والمانع، وهو المقدم والمؤخر، وهو الباسط والقابض، وهو الرافع والخافض .. ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
فحقيقة الابتلاء أنه من عند الله {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ} [آل عمران: ١٦٦]. وعندما يتحدث القرآن عن الابتلاء الشديد لبني إسرائيل على يد فرعون فإنه يذكرنا بأن جوهر هذا الابتلاء أنه من عند الله عن طريق فرعون {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: ٤٩].
أرأيت بماذا ختمت الآية {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} وليس من فرعون، وإن كان هذا لا يعفي فرعون من المسئولية، فهو بالفعل يريد التنكيل بالفئة المؤمنة، وطالما تربص بها، وكاد لها وخطط لزوالها، ولكن الذي مكنه من ذلك هو الله عز وجل.
فجوهر وحقيقة الابتلاء أنه من عند الله عز وجل، وإذا شاء سبحانه ألا يقع لما وقع، ولو اجتمعت كلمة الجميع على ضرورة وقوعه {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: ١١٢]، فكم من خطط ومكائد كادها أعداء الدعوة لها وأفشلها الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} [المائدة: ١١].
وكم من المرات تهيأ فيها أعداء الدعوة للنيل منها، وكانوا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق أهدفهم ولكن الله لم يأذن لهم بذلك وصرفهم عنها خائبين مدحورين {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: ٢٥].
وانطلاقًا من هذه الحقيقة فإن الواجب يحتم علينا عند وقوع حدث الابتلاء أن نبحث -بقدر استطاعتنا- عن الأسباب التي جعلت الله عز وجل يصيب الدعوة به.
وليس من الضروري أن نتوقف كثيرًا أمام الطرف المقابل للدعوة فعداوته معروفة، وأمانيه معلومة، وخططه جاهزة، ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا منها بدون إرادة الله وإذنه ومشيئته {وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ} [البقرة: ١٠٢] {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: ٣٠].