فمنها .. تعريفهم سوء عاقبة المعصية والفشل، والتنازع، وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك، كما قال تعالى {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ} [آل عمران: ١٥٢]. فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول وتنازعهم، وفشلهم كانوا بعد ذلك أشد حذرًا ويقظة، وتحرزًا من أسباب الخذلان.
ومنها: أن حكمة الله وسنته في رسله، وأتباعهم، جرت بأن يُدالوا مرة، ويُدال عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة، فإنهم لو انتصروا دائمًا، دخل معهم المؤمنون وغيرهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انتُصر عليهم دائمًا لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة، فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق، وما جاؤوا به، ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة.
ومنها: استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء، وفيما يحبون وما يكرهون، وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون ويكرهون، فهم عبيده حقًا، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد في السراء والنعمة والعافية ..
ومنها: أنه سبحانه لو نصرهم دائمًا وأظفرهم بعدوهم في كل موضع، وجعل لهم التمكين والقهر لأعدائهم أبدًا لطغت نفوسهم، وشمخت وارتفعت، فلا يُصلح عباده إلا السراء والضراء، والشدة والرخاء، والقبض والبسط، فهو المدبر لأمر عباده كما يليق بحكمته، إنه بهم خبير بصير.
ومنها: أنه إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة والهزيمة، ذلوا وانكسروا، وخضعوا، فاستوجبوا منه العز والنصر، فإن خلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل والانكسار قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: ١٢٣].
فهو سبحانه إذا أراد أنه يعز عبده ويجبره وينصره، أذاقه مس الحاجة إليه، وضرورة الافتقار إليه، حتى يستشعر من أعماق نفسه ضرورة التوكل عليه، وأنه لا ملجأ منه إلا إليه.
ومنها: أنه سبحانه هيأ لعباده المؤمنين، منازل في دار كرامته، لم تبلغها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة، فقيَّض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه كما وفقهم للأعمال الصالحة، والتي هي من جملة أسباب وصولهم إليها.
ومنها: أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغيانًا وركونًا إلى العاجلة، و ذلك مرض يعوقها عن جدَّها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته، قيَّض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواءً لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقى العليل الدواء الكريه، ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه.
ومنها: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقربون من عباده، وليس بعد درجة الصَّدَّيقيَّة إلا الشهادة، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء، تُراق دماؤهم في محبته، ومرضاته، ويؤثرون رضاه ومحابه على نفوسهم، ولا سبيل لنيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليه من تسليط العدو.