للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررنا يومًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر، فقلت: لقد حدث أمر، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة/١٤٤]، حتى فرغ من الآية، فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى (في اتجاه الكعبة) فتوارينا فصليناهما، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى بالناس الظهر يومئذ (١).

- وفي يوم من الأيام قََدِمتْ قافلة لعبد الرحمن بن عوف بها سبعمائة راحلة تحمل المتاع، فلما دخلت المدينة ارتجت الأرض بها، فقالت عائشة: ما هذه الرّجة؟ فقيل لها: عِير لعبد الرحمن بن عوف .. سبعمائة ناقة تحمل البُر والدقيق والطعام، فقالت عائشة: بارك الله فيما أعطاه في الدنيا، ولثواب الآخرة أعظم.

وقبل أن تبرك النوق كان الخبر قد وصل لعبد الرحمن بن عوف: فذهب إليها مُسرعًا، وقال: أشهدك يا أُمَّه أن هذه العير جميعها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله.

التنافس في الخير:

صاحب الإيمان الحي لا يُريد أن يسبقه أحد إلى الوصول للراية العُظمى .. راية رضا الله والتعرض لرحمته ومغفرته ودخول جنته، لذلك تراه حزينًا حين تتحين أمامه فرصة للاقتراب من تلك الراية ولا يستطيع اغتنامها لأسباب خارجة عن إرادته كالمرض أو الفقر، ولنا في قصة البَكَّائين خير مثال على ذلك:

فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن ينبعثوا غازين (غزوة تبوك)، فجاءت عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن معقل المزني، فقالوا: يا رسول الله احملنا. فقال: «والله ما أجد ما أحملكم عليه»، فتولَّوا ولهم بكاء، وعَزَّ عليهم أن يُحبَسوا عن الجهاد، ولا يجدون نفقة ولا محملًا. فأنزل الله عذرهم: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} (٢) [التوبة/٩٢].

- وفي الصحيحين أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدُّثور (الأموال الكثيرة) بالدرجات العُلى والنعيم المقيم، فقال صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك؟»، فقالوا: يُصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلا أُعلمكم شيئًا تُدرِكون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «تُسبِّحون، وتحمدون، وتُكبِّرون، دُبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة»، فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» (٣).


(١) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ١/ ١٦٨ - مكتبة العبيكان، وحديث القبلة أخرجه النسائي في السنن الكبرى - (ج ٦ / ص ٢٩١، برقم ١١٠٠٢)، ومسند أحمد بن حنبل - (ج ٤ / ص ٤٠٨، برقم ١٩٦٧٧).
(٢) الدر المنثور للسيوطي ٣/ ٤٧٩.
(٣) متفق عليه: وهذا لفظ مسلم، وأخرجه البخاري (١/ ٢٨٩ برقم ٨٠٧)، ومسلم (٢/ ٩٧، برقم ١٣٧٥).

<<  <   >  >>