ومن ثمار الإيمان:
ثالثًا: الزهد في الدنيا
من تعريفات الزهد: «انصراف الرغبة في الشيء مع وجوده»، ومثال ذلك: الطفل الذي يسعد سعادة غامرة حين يلعب بالدُمَى، ويحرص على اقتنائها، ويحلم بشراء الجديد منها، ولكن عندما يكبر هذا الطفل بضع سنين تجد حرصه وشغفه وفرحه بهذا اللعب يقل ويقل إلى أن يزول وتنصرف رغبته عنها فيصير زاهدًا فيها ولا يُبالى بوجودها إذا ما وُجدت، ولا يحزن على ضياعها إذا ما فُقدت.
وحال الناس مع الدنيا - بدون الإيمان - كحال الأطفال مع لِعَبهم، ولكي يزهدوا فيها لابد من نمو الإيمان في قلوبهم.
فعندما يقوى الإيمان في القلب يقل تعلق صاحبه بالدنيا، ورغبته فيها، وحرصه عليها.
نعم، هو لن يتركها ببدنه بل يتركها بقلبه، فالزهد حالة شُعورية يعيشها المرء كانعكاس لنمو الإيمان الحقيقي في قلبه، وهو لا يستلزم الفقر، ولا يتنافي مع الغنى.
الزاهد في الدنيا لا ينشغل بها كثيرًا إذا ما وُجدت بين يديه، فعلى سبيل المثال: قد يتوفر لديه العديد من الملابس، فإذا ما أراد الخروج من منزله فإنه لا يقف أمامها طويلًا إنما يرتدي ما امتدت إليه يده، وهو حين يفعل ذلك يفعله بتلقائية تعكس حالة قلبه الإيمانية.
وكلما قوى الإيمان أكثر وأكثر ازداد تعلق صاحبه بالآخرة ورغبته فيها، وازداد زهده في الدنيا بصورة أشد وأشد لدرجة أنه لا يترك لنفسه إلا أقل القليل منها وبما يُحقق له ضروريات الحياة، وليس هذا بسبب معارضته لمبدأ التمتع بمُباحات الدنيا، ولكن لأن إيمانه يأبى عليه ذلك ويدفعه لاستثمار كل ما يأتيه في حياته لداره الآخرة متمثلًا قول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ} [القصص/٧٧]، لذلك فهو يحتاج دومًا إلى من يذكره بقوله تعالى: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص/٧٧].
وكيف لا، وإيمانه يأبي عليه أن يتوسع في هذا النصيب.
هكذا كانوا:
بهذه المستويات الإيمانية تعامل الصحابة - رضوان الله عليهم - مع الدنيا فكانت منهم أحوال عجيبة يستغرب منها أمثالي من ضعاف الإيمان الذين لا يزالون في مرحلة الطفولة واللهو بطين الأرض.
فهذا أبو الدرداء نزلت به جماعة من الأضياف في ليلة شديدة البرد فأرسل إليهم طعامًا ساخنًا، ولم يبعث إليهم بالأغطية فلما هموا بالنوم جعلوا يتشاورون في أمر اللُّحف، فقال واحد منهم: أنا أذهب إليه وأكلمه، فمضى حتى وقف على باب حجرته فرآه قد اضطجع وما عليه إلا ثوب خفيف لا يقي من حر ولا يَصُون من برد، فقال الرجل لأبي الدرداء: ما أراك بت إلا كما نبيت نحن!! أين متاعكم؟! فقال: لنا دار هناك نُرسل إليها تباعًا كل ما نحصل عليه من متاع ولو كنا قد استبقينا في هذه الدار شيئًا منه لبعثنا به إليكم، ثم إن في طريقنا الذي سنسلكه إلى تلك الدار عقبة كؤود المُخِفّ فيها خير من المُثقِل، فأردنا أن نتخفف من أثقالنا علَّنا نجتاز (١).
وكان طلحة بن عبيد الله تاجرًا فجاءه ذات يوم مال من «حضرموت» مقداره سبعمائة ألف درهم، فبات ليلته جزعًا محزونًا.
فدخلتْ عليه زوجته أم كلثوم، وقالت: ما بك يا أبا محمد؟!! لعله رابك منَّا شيء!!
(١) الإصابة ج٣ ترجمة (٦١١٧)، وأسد الغابة (٤/ ١٥٩)، تاريخ الإسلام للذهبي (٢/ ١٠٧).