للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الحمد لله. الجواب

اعلم أنه قد وجد في الخضر (عليه السلام) المقتضي للمجيء بنون العظمة، لما تفضل الله به عليه من العطايا (١) العظيمة، والمواهب الجسيمة التي من جملتها العلم الذي فضله الله به حتى أخبر موسى (عليه السلام) لما سأله: هل في الأرض أعلم منه؟.

فقال: عبدنا خضر، كما هو ثابت في الصحيح (٢). كان هذا وجها صبيحا، ومسوغا صحيحا للمجيء بنون العظمة تارة، وعدم المجيء بها أخرى. فقال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} (٣).

وقال: " فأردنا " ملاحظا في أحد الموضعين لما يستحقه من التعظيم، تحدثا بنعم الله - سبحانه- عليه. وفي الموضع الآخر قاصدا للتواضع، وأنه فرد من أفراد البشر، غير ناظر إلى تلك المزايا التي اختصه الله- سبحانه- بها، مع كون ذلك هو الصيغة التي هي الأصل في تكلم الفرد.

ومع هذا. ففي تلوين العبارة نوع من الحسن أخر. وهو الافتنان في الكلام، فإنه أحسن تطرية لنشاط السامع، وأكثر إيقاظا كما قيل في نكتة الالتفات (٤).


(١) قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: ٦٥]
(٢) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (٧٤، ٧٨) من حديث ابن عباس وأبي بن كعب" .... بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال: أتعلم أحدا أعلم منك؟ قال موسى، لا فأوحى الله عز وجل إلى موسى بلى، عبدنا خضر .. "
(٣) قال الحافظ في الفتح (٨/ ٤٢٢): وفيه حسن الأدب مع الله وأن لا يضاف إليه ما يستهجن لفظه وان كان الكل بتقديره وخلقه لقول الخضر عن السفينة {فأردت أن أعيبها} وعن الجدار {فأراد ربك} ومثل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "والخير بيدك، والشر ليس إليك"
(٤) الالتفات، وهو نقل الكلام من أسلوب إلى أخر، أعني من التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى آخر منها بعد التعبير بالأول، وهذا هو المشهور وقال السكاكي: إما ذلك أو التعبير بأحدهما فيما حقه التعبير بغيره.
وله فوائد، منها: تطرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجر والملل، لما جبلت عليه النفوس من حب التينقلات، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد هذه فائدته العامة والاقتصاد والإيجاز في التعبير ويختص كل موضع بنكت ولطائف باختلاف محله.
والالتفات من الأساليب البلاغية ذات اللطائف النفيسة ويلقب الالتفات بشجاعة العربية ... ومن أمثلته:
أ- قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: ٣٠].
وهو حديث الله عز وجل عن نفسه بأسلوب الحديث عن الغائب.
ب- وقوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:١ - ٢) جاء الكلام أولا على طريقة التكلم، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ}، ثم انتقل إلى أسلوب الحديث عن الغائب {فصك لربك} أولم يقل فصل لنا.
ومن شروط الالتفات:
١/ يشترط قي الالتفات أن يكون الضمير المنتقل إليه عائدا في نفس الأمر إلى المتنقل عنه.
٢/ شرطه أن يكون قي جملتين.
وللالتفات صبور ست ذكرها "الميداني" في البلاغة العربية (١/ ٤٨٤).
وانظر: "معترك الأقران في إعجاز القران " (١/ ٢٩٠ - ٢٩٢)