للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

بحمد الله:

ورد سؤال معناه أن أهل الحديث جزموا بعدالة جميع الصحابة بالأدلة الدالة على المزايا كتابًا وسنة، ولكنه قد نسب إلى بعضهم ضعف الحفظ والنسيان، والصحبة لا تعصم عن مثل ذلك، فما بال المحدثين لم يتعرضوا لذلك؟ وأجبت بأن هذا السؤال أخذه السائل من كونه لم يقع الكلام في ذلك في كتب الجرح والتعديل، ونحن نقول أن الصحابة -رضي الله عنه- ما كانوا يقبلون حديث من تعرض له منهم سهو، أو نسيان، أو ضعف حفظ، أو نحو ذلك.

وقد وقع بينهم ذلك في أحاديث معروفة، وقصص مذكورة كحديث قليب بدر (١) وحديث: «إن الميت يعذب ببكاء أهله ....................


(١) أخرجه البخاري رقم (٣٩٧٦) ومسلم رقم (٢٨٧٥) من حديث أنس بن مالك. وفيه " ... فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا"، قال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم".
قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخًا وتصغيرًا ونقيمة وحسرة وندما.
روت عائشة رضي الله عنها هذه الرواية بعد موت عمر وتمسكت بقوله الله تعالى: {وما أنت بمسمع من في القبور} [فاطر: ٢٢].
وفي المسألة قولان:
١ - ): أنهم لا يسمعون وهو مذهب الحنفية.
ومن أدلتهم على ذلك:
١ - ): قوله تعالى: {وما أنت بمسمع من في القبور}، [فاطر: ٢٢].
٢ - ): قوله تعالى: {إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} [النمل: ٨٠].
وأجاب الآخرون بأن الآيتين مجاز، وأنه ليس المقصود بـ (الموتى) وبـ (من في القبور) الموتى حقيقة في قبورهم، وإنما المراد بهم الكفار الأحياء، شبهوا بالموتى، والمعنى من هم حال الموتى أو في حال من سكن القبر".
٣ - ): وقوله تعالى: {ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما ااستجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} [فاطر: ١٣ - ١٤].
فهذه الآية صريحة في نفي السمع عن أولئك الذين كان المشركون يدعونهم من دون الله تعالى، وهم موتى الأولياء والصالحين الذين كان المشركون يمثلون في تماثيل وأصنام لهم، يعبدونها فيها، وليس لذاتها.
٤ - ): حديث قليب بدر - تقدم تخريجه.
ووجه الاستدلال بهذا الحديث:
١ - ): ما في إحدى الروايات - عند البخاري رقم (٣٩٨٠، ٣٩٨١) والنسائي (١/ ٦٩٣) من حديث ابن عمر - من تقييده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماع موتى القليب بقوله: "الآن" فإن مفهومه أنهم لا يسمعون من غير هذا الوقت، وهو المطلوب.
وقد نبه على ذلك العلامة الألوسي في كتابه "روح المعاني" (٦/ ٤٥٥) ففيه تنبيه قوي على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون، ولكن أهل القليب في ذلك الوقت قد سمعوا نداء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبإسماع الله تعالى إياهم خرقًا للعادة ومعجزة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٢ - ): أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقر عمر وغيره من الصحابة على ما كان مستقرًا في نفوسهم واعتقادهم أن الموتى لا يسمعون.
وأقرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على فهمهم للآية على ذلك الوجه العام الشامل لموتى القليب، وغيرهم لأنه لم ينكره عليهم، ولا قال لهم: أخطأتم، فالآية لا تنفي مطلقًا سماع الموتى بل إنه أقرهم على ذلك، ولكن بين لهم ما كان خافيًا عليهم من شأن القليب، وأنهم سمعوا كلامه حقًا، وأن ذلك أمر خاص مستثنى من الآية، معجزة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٥ - ): قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام" وهو حديث صحيح.
ووجه الاستدلال به: أنه صرح في أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يسمع سلام المسلمين عليه إذا لو كان يسمعه بنفسه، لما كان بحاجة إلى من يبلغه إليه كما هو ظاهر لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى.
وإذا كان الأمر كذلك فبالأولى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يسمع غير السلام من الكلام. وإذا كان كذلك فلأن لا يسمع السلام غيره من الموتى أولى وأحرى.
أدلة المخالفين وهم القائلين بأن الموتى يسمعون:
١ - ): الدليل الأول وهو حديث قليب بدر وقد تقدم.
وقد عرفت مما سبق أنه خاص بأهل قليب بدر من جهة، وأنه دليل على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون من جهة أخرى، وأن سماعهم كان خرقًا للعادة.
٢ - ): قوله: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الميت ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا" وهو حديث صحيح أخرجه البخاري رقم (١٣٣٨) ومسلم رقم (٢٨٧٠) من حديث أنس رضي الله عنه. وهذا خاص بوقت وضعه في قبره ومجيء الملكين إليه لسؤاله فلا عموم فيه.
والخلاصة:
أن الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال أئمة الحنفية وغيرهم - على أن الموتى لا يسمعون.
وأن هذا هو الأصل: فإذا ثبت أنهم يسمعون في بعض الأحوال. كما في حديث خفق النعال، أو أن بعضهم سمع في وقت ما، كما في حديث القليب، فلا ينبغي أن يجعل ذلك أصلًا، فيقال: إن الموتى يسمعون كما فعل بعضهم كلا فإنها قضايا جزئية، لا تشكل قاعدة كلية، يعارض بها الأصل المذكور، بل الحق أنه يجب أن تستثنى منه، على قاعدة استثناء الأقل من الأكثر أو الخاص من العام كما هو مقرر في علم أصول الفقه.
وقال الحافظ في "الفتح" (٧/ ٣٠٧): لا معارضة بين حديث ابن عمر والآية لأن الموتى لم تمتنع كقوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة} الآية، {فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا} الآية - وقد جاء في المغازي - قول قتادة إن الله أحياهم حتى سمعوا كلام نبيه عليه الصلاة والسلام توبيخًا وحسرة وندمًا.
انظر: "روح المعاني" للألوسي (٦/ ٤٥٤ - ٤٥٦)، "الدر المنثور" (٥/ ١٩١).